ديانا غرز الدين
هل صحيح ما يقال بأن: الوعي الشديد، بل الوعي بأي درجة من الدرجات هو مرض ؟ و هل من شأن الوعي ان يجلب علينا مصائب و بلاوي لا تعد و لاتحصى؟ حسب رواية”قبل شروق الشمس” للكاتب الروسي ميخائيل زوشينكو، فإن العقول السامية تعاني اكثر من غيرها، و في الحقيقة فإن صنوف المعاناة تصيب عقولا مرتبطة في المقام الاول بالفن و الابداع، و هي ذات سمات خاصة تميل الى الخيالات و التصورات شديدة الحساسية . و ان مصدر آلامنا الحقيقي يكمن في الصراع الدائر في عقلنا بين قوانا السامية مع الدنيئة. كما لو ان عقلنا يضم عالمين مختلفين داخل جهازه المعقد، عالم الحضارة و عالم الحيوان. يتصارعان ضد بعضهما البعض. و بسبب هذا الصراع الدائم، يتأثرجهازنا العصبي، وحالتنا النفسية و العقلية. و يكون التأثير متفاوتا بين شخص و اخر، بحسب درجة استعداده وخلفيته من تجارب الحياة و طبيعة نشأته.
“عندما اتذكر اعوام شبابي ، اشعر بالذهول من كمية الحزن و القلق غير الضرورية التي كانت لدي … فقد تلونت اعوام شبابي كلها باللون الاسود، اكتنفتني الكآبة وامسك بي الحزن بين براثنه.”
هذا ما ورد في رواية “قبل شروق الشمس” للكاتب الذي يروي فيها اضطرابه النفسي، و التي كتبها خلال سنوات الثورة الروسية ( ثورة الجياع :أكتوبر ١٩١٧ التي انهت الحكم القيصري و نشأ على إثرها الاتحاد السوفيتي و الحكومةالاشتراكية). و الحرب العالميه الاولى ( ١٩١٤-١٩١٨).
مُنعت الرواية بسبب مخالفتها لطبيعة الادب الاشتراكي- في ذلك الوقت- بنزعتها الذاتية . وهي تستحق الذكر بسبب فرادتها، كونها تجمع بين خصائص الرواية و السيرة الذاتية و القصص القصيرة بالإضافة الى التحليلات العلمية و الفلسفات الادبية .
بطل الرواية هو الكاتب نفسه الذي صارع الاكتئاب منذ أولى سنوات شبابه، و طحنته سنوات الثورة و الحرب الأهلية الروسية. شخّص مرضه و عالجه بقوة الارادة و الرغبة في الشفاء بالإضافة الى كمّ كبير من الدراسات المعرفية أدت الى خروجه منتصرا من معركته التي دامت سنوات طويلة .
تساءل الكاتب عن سبب معاناة عدد كبير من الكتّاب والشعراء المبدعين، أمثال تولستوي و غوغول و الان بو و يسينين و غيرهم، من الكآبة و الحزن، و استشهد باقوال لهم، فقد كتب الان بو: “لدي قدر من الكآبة يمكنه ان يقتلني اذا استمر هكذا..لا شيء يمكنه ان يبعث فيَّ السرور او اقل قدر من المتعة…فليقنعني احد بضرورة العيش”
كتب بو هذه الكلمات و هو دون سن الثلاثين. مات في الأربعين و كانت حياته كلها مليئة بالمصائب و يكتنفها حزن عجيب دون سبب مفهوم له. كذلك الامر بالنسبة لزوشينكو، فوضعه لم يكن يختلف كثيرا عن معاصريه من الكتّاب، فقد قال في روايته:
“سعيت صوب الناس بكل قوتي، و ابتهجت بالحياة، و بحثت عن الاصدقاء، والحب و اللقاءات المرحة، و لم اجد عزاءً واحدا في كل ذلك. بهت كل شيء بين يدي، و سعى الاكتئاب في إثري في كل خطوة، كنت تعيسا ولا اعرف لماذا…. شيء ما قد أصاب نفسي، فقدت الوهج الذي بداخلي، و توقفت الموسيقى التي كانت تحفز حياتي”
ميخائيل زوشينكو كاتب و ناقد روسي ولد و توفي في سانت بطرسبرغ (١٨٩٤-١٩٥٨). ترجمت معظم اعماله بعد ان كانت ممنوعة في الاتحاد بسبب كونها تشكل خطرا على البلاشفة و نظامهم الاستبدادي.