الكاتب الإسرائيلي بريشيت زابنر: الجيش صار كالله يتحكّم بكل شيء
روزيت الفار-عمّان
في كتابه “An Army Like No Other” يقول الأكاديمي الإسرائيلي المناهض للصّهيونيّة هاييم بريشيث زابنر. إنّ الجيش الاسرائيلي لا مثيل له في العالم، فهو الأساس الذي بُني عليه الكيان الاسرائيلية، وهو ك #الله” موجود في كلّ المؤسسات والاحزاب والادارات وكلّ شيء.
في عام 1948 وحتّى قبل قيام “دولة إسرائيل”، أنشأ ديفيد بن غوريون -أوّل رئيس حكومة إسرائيليّة- هذه المؤسّسة العسكريّة؛ ضمن رؤيته الشّخصيّة الّتي تعتبر “الجيش” أساس الدّولة والأمّة، بعد أن كانت عصابات صهيونيّة مدجّجة ومدرّبة مثل “الهاغاناه”، تقوم بمهمّة محاربة الفلسطينيّين ومُدرّبيهم البريطانيّين حين كان هؤلاء يقاتلون النّازيّين الألمان.
فمنذ ذلك التّاريخ وحتّى الآن، اعتُبِر الجيش الإسرائيلي المؤسّسة الأكبر والأقوى والأضخم ميزانيّةً والأكثر نفوذاً الّتي يتمّ بواسطتها التّعريف بالمجتمع الإسرائيلي اليهودي؛ وتعمل كحاضنة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة لجميع أعضاء الطّبقة الحاكمة.
تطوّرت هذه المؤسّسة، كما يفيد الكاتب، عبر الحروب الّتي شنّتها إسرائيل على مدى تاريخها؛ والّتي شملت مصر ولبنان والعراق وهجماتها العدوانيّة المتكرّرة على غزّة، حيث كانت أساساً لتشكيل “دولة إسرائيل”.
يقول الكاتب، الّذي وُلِد بمخيّم للنّازحين في إيطاليا عام 1946 من أبوين بولنديّين جاؤا إلى فلسطين ضمن آلاف اليهود المُستقدمين من أوروبّا، إنَّ ما عاشه في سنين طفولته وحداثته الّتي قضاها بجباليا بمحيط فلسطيني محب، وما شاهده من حروب اشتركت فيها إسرائيل مع فرنسا وبريطانيا عام 1956 ضدَّ عبد النّاصر دون تبرير، وكذلك حرب ال1967 الّتي تمّت فيها سيطرة إسرائيل على الضّفّة الغربيّة وأُجبر على الانضمام للجّيش والمشاركة فيها، شكّلت جميعها لديه تجارب أثّرت على سير حياته ومستقبله.
تُعرف إسرائيل بجيشها الّذي صنع لها أمّة عن طريق الاستعمار الاستيطاني والعنف العسكري
لم يكن الجيش أداة للحظة استثنائيّة من الحرب، بل المرتكز الرّئيس للدّولة الجديدة وضامن وجودها وهويّتها حتّى لما بعد الحرب؛ من خلال زعمه لرواية “الضّحيّة” المحاطة بالأعداء الّتي تواجه تهديداً وجوديّاً، لتبرير استعمارها وتوسّعها داخل فلسطين وخارجها. تماماً كنجاحها بتسويق سرديّة الهولوكوست الّتي ضمنت بواسطتها -وبالرّغم من وحشيّتها- كامل الدّعم الدّولي لاحتلال وضمّ المزيد من الأراضي ومضاعفة عدد المستوطنات وشرعنتها؛ مستخدمة أقصى درجات البطش والعنف. فالعنف العسكري -كما يراه المؤلّف- ضرورة لأيِّ مشروع استيطاني.
اليسار واليمين الإسرائيلي. التّديّن والعسكرة والفاشيّة
تطرّق الكاتب لموضوع الأحزاب في إسرائيل وقال بأنّ اليسار الّذي كان يحكم إسرائيل؛ لم يعد له وجود يذكر بعد عام 1977 حين انتقل الحكم بعدها لليمين ولا يزال.
بمعنى أنّ ثُلثي تاريخ إسرائيل يحكمه اليمين. رافق التّحوّل نحو اليمين تحوّلٌ أكثر أهمّيّة؛ هو “التّديّن” كمشروع للفاشيّة، Religionization-Protofascism. فبعد أن كان المجتمع الإسرائيلي اجتماعيّاً بسيطاً يصدّر البرتقال والأفوكادو، وعلمانيّاً لم تتجاوز نسبة المُتديّنين به ال15%، أصبح مجتمعاً تتنامى فيه الحركة الدّينيّة لتتجاوز نسبة المُتديّنين ال50%، ويمتلك أكبر تجارة أسلحة في المنطقة. يقول الكاتب: إنّ التّديّن والعسكرة والفاشيّة هو المزيج الأخطر والأكثر سمّيّة. وهو ما أصبحت عليه إسرائيل الآن.
الجيش مؤسّسة مركزيّة تحدّد المجتمع الإسرائيلي.
وبعد مقارنتها بجميع المُتغيّرات الممكنة، وجد بن غوريون المؤسّسةَ العسكريّة؛ المتغيّر الأكثر ثباتاً واستمراريّة على مدى سنوات الاحتلال ال75 الّتي حازت على دعم 96% من مجموع السّكّان وهو ما أكسبها أهمّيّتها، فجميع القيادات تتمنّى هذه النّسبة لمؤسّساتها والّتي قد لا نجدها سوى بالدّول الشّيوعيّة.
استخدم بن غوريون مؤسّسة الجيش كأداة لتحقيق غاية صعبة ومهمّة؛ ألا وهي جمع شظايا شعوب كانت موزّعة بدول أوروبّا والعالم، وتحويلها إلى شعب جديد يصنع منه أمّة تعيش على أرض فلسطين.
لذلك، سعى جاهداً لأن تكون هذه المؤسّسة استثنائيّة كيما تتمكّن من القيام بتلك المهمّة وخصوصاً أَّنَّ اليهود المُستَقدمَين جاؤا من أماكن مختلفة لا تجمعهم أيّة لغة أوعقيدة أو معتقد. فكان لزاماً عليه اختيار مؤسّسة يكون فيها مستوى الشّراكة عالياً؛ الأمر الّذي وفّرته مؤسّسة الجيش.
ضمَّ الجيش 120 ألفاً من الرّجال والنّساء من مجموع السّكّان الّذين لم يصل عددهم آنذاك 650 ألفاً. بمعنى أنّ معظم البالغين كانوا جزءاً من تلك المؤسّسة فهي الأكثر عدداً في عضويّتها الّتي يمكن أن يُرتكز عليها.
اختار بن غوريون الجيش كمؤسّسة لتحديد الهويّة وتشكيلها كتجربة سبارطة النّوويّة، وتمكّن من تحقيق رغبته. حيث يعتبر الجيش الإسرائيلي خامس أكبر قوّة نوويّة في العالم.
الجيش هو مؤسّسة الشّعب الشّرعية والثّابتة وذات الأفرع.
تبع قيام مؤسّسة الجيش، إنشاء عدد من التّنظيمات والفروع للقيام بمهام مختلفة داعمة؛ منها ما يقوم بتعليم الأشخاص لأن يصبحوا قادة وحكّام المستقبل. فهي النّادي الّذي عليك الانتماء له؛ والّذي يُعتبر معياراً لقياس أيّ هيكل اجتماعي آخر.
يقول الكاتب أنَّه خلافاً للجيش البريطاني؛ نرى الجيش الإسرائيلي ك”الله”، متواجداً في كلّ زمان ومكان وفي جميع مناحي الحياة. نراه في التّعليم والتّعليم العالي. فهو المُراقب للمناهج المدرسيّة والجامعيّة بأكملها، كما وأنَّ الدّخل الرّئيسي لعوائد البحوث مرتبط بشكل أو بآخر ببرامج يمتلكها الجيش أو فروعه وخاصّة، الّتي تدير أمن البلد، وتلك المسؤولة عن تطوير كافّة برامج الكومبيوتر والتّكنولوجيا (السوفت وير والهارد وير).
يتحكّم الجيش كذلك بالصّناعة، وبمؤسّسات القانون والعدل والمحاكم وبالإعلام. كما بالرّاديو والمسرح والسّينما، ولديه الآن ثلاثة محطّات إذاعيّة هي الأهم بين جميع الإذاعات، ويسيطر على كامل الإنتاج الإعلامي والمعرفي والثّقافي. لديه معاهد لتدريب الطّلبة والمجموعات الّتي تدير إعلامه حيث لا يمكن لأيّ إعلامي أن يستلم عمله دون أن يكون قد مرَّ بجميع مراحل التّدريب في الجيش. كذلك نجد العديد من المُعسكرات التّابعة له في الجامعات. يوجد بالجامعة العبريّة بالقدس معسكر؛ غاية في السّريّة لا يدخله إلّا الجنود حيث يتمّ التّدريب على العمل في جهاز المخابرات والأجهزة التّابعة لها.
الجنرالات في كلّ مكان ويقومون بأدوار سياسيّة.
لا يمكننا أن نجد تنظيماً أيّاً كان، دون وجود لعسكريّين بداخله. حتّى الكنيست الإسرائيلي نجد دائماً فيه جنرالات من الجيش. بن غوريون نفسه الّذي كان رئيساً للحكومة كان أيضاً رئيس أركان هذا الجيش. كذلك اسحق رابين وموشيه ديان وشارون ونتنياهو. نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة هم أيضاً جنرالات.
جميع الجامعات الإسرائيليّة تجري التّدريب العسكري لطلاّبها. نرى أنّ على النّظام التّعليمي برمّته، من المدرسة وحتّى الجامعة، أن يقوم بتدريب جنود المستقبل وهؤلاء بدورهم وبعد إتمام تدرّبهم عليهم توظيف ما اكتسبوه في محيطهم ومجتمعهم.
وأبعد من ذلك، يعمل الجيش كجهاز للهندسة الاجتماعيّة، الّتي يراد منها المخادعة الإلكترونيّة لجلب بيانات تستخدم لتنفيذ غايات خطيرة، تترافق مع مهمّة إعادة كتابة التّاريخ اليهودي القديم غير العسكري وغير المناسب للصّهيونيّة، واستبداله بتاريخ الأسطورة البطوليّة التّوراتيّة.
التّدريب العسكري يبدأ قبل بدء الحياة.
هناك صورة في الكتاب لجنين برحم أمّه يرتدي القبّعة العسكريّة الإسرائيليّة (البيريه)، للإشارة بأنّ التّجنيد يبدأ حتّى قبل الخروج للحياة. ويتمّ التّدريب العسكري بشكل رسمي بين الأعمار 14-18 ليس فقط جسديّاً؛ أي التّكوين البدني وحمل البندقيّة، بل ذهنيّاً وفكريّاً. إنّهم يتعلّمون الأيديولوجيا العسكريّة والّتي تزرع فيهم مبادئ جوهريّة، أهمّها:
- أنّ الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقيّة بين جيوش العالم.
- أَّن الفلسطينيّين إرهابيّون وليس لهم أيّة حقوق سياسيّة بملكيّة الأرض ويجب قتلهم.
- وبأنَّ البلاد كانت فارغة حين جاء إليها اليهود. (بالطّبع، كلّ ذلك أكاذيب. فقد كان اليهود يمثّلون وقتئذٍ 7% فقط من السّكان وال93% الباقي فلسطينيّون.)
يتذرّع الإسرائيليّون بحجّة أنّهم مظلومون وأنّهم محاطون بالأعداء وبأنّ كلّ العالم ضدَّهم ولا أحد يريد السّلام معهم.
أوضح الكتاب زيف هذا الادّعاء والتّظلّم. فدولة استعماريّة استيطانيّة تحارب وتقتل وتدمّر وتهجّر وتقمع وتحاصر ملايين الفلسطينيّين وتحرمهم من حقوقهم، لا يمكنها أن تكون دولة ديموقراطيّة ولا لجيشها أن يكون الأكثر أخلاقيّة ولا مثيل له.
يذكر الكاتب في أحدى مقابلاته؛ عن عمله الآن في بريطانيا مع مجموعات من اليهود المزراخيّين لدعم الفلسطينيّين وبأنّه يجب معاملتهم كبشر لهم كرامتهم ولديهم حقوق يجب أن ينالوها ويحكموا أرضهم. وهو من أجل ذلك، يعمل بجدّيّة لحشد التّضامن ومساندتهم.
قال بأنّه قام بطرح كتابه؛ لجعل العالم الخارجي يفهم حقيقة أخلاق هذا الجيش غير البعيدة عن أخلاق ووعي مجتمعه، حيث يظهر كيف يتحرّى الجيش ويغيّر ويشكّل كل منحنى من مناحي الحياة في إسرائيل ليخلق حالة أو ظروفاً حيث لا يمكن للسّلام والسّلام العادل أن يتحقّقا. فالإسرائيليّون، كما يقول، يخافون السّلام أكثر من خوفهم من الحرب.