الأغنية سلاح والصوت كفاح
الأغنية سلاح والصوت كفاح
روزيت الفار-عمّان
يعمل الفلكلور أو التّراث الشّعبيّ، بشكل عام، على إحياء وحفظ أيّة قضيّة في حياة الفرد الحاضرة وترسيخها في ذاكرة الأجيال من بعده. وتُعتبر الأغنية التّراثيّة من أكثر أنواع الأدب الشّعبي استجابة لتسجيل الأحداث والمواقف والموضوعات. ونظراً لتنوّعه وبساطته، يتميّز هذا النّوع من الفن بثباته وسرعة انتشاره.
اكتسبت الأغنية الوطنيّة الفلسطينيّة أهميّة منذ بداية ثلاثينات القرن الماضي كأحد أشكال مقاومة الاستعمار البريطاني، وكذلك كوسيلة استشعار لوقوع الاحتلال حتّى قبل حدوثه.
وفي قصيدته “الثّلاثاء الحمراء“، استطاع الشّاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان أن يخلق انسجاماً وتناغماً بين عناصر الزّمن والموت والتّاريخ. أُخذ عن هذه القصيدة فيما بعد؛ أغنية “من سجن عكّا” الشّهيرة، والّتي أتت لتحكي قصّةً من قصص الشّجاعة والنّضال الطّويل في سبيل الدّفاع عن الوطن. ويعود تاريخ القصيدة لعام 1930 وذلك بعد قيام المستعمر الإنجليزي بإعدام ثلاثة أبطال فلسطينيّين من سجن عكّا، هم: عطا الزّير وفؤاد حجازي ومحمّد جمجوم، والّذين هبّوا للدّفاع عن أرضهم ومقدّساتهم وقادوا ثورة حائط البرّاق (حائط المبكى) عام 1929 لأسباب تعود لتجاوز اليهود، الّذين كانوا يزدادون عدداً نتيجة الهجرات من الخارج، قواعد الاتّفاق الّذي كان قد أُبرم مسبقاً بينهم وبين الفلسطينيّين وكان الطّرفان ملتزمين بموجبه بالإبقاء على الوضع الرّاهن للمكان.
ألهبت هذه القصيدة جماهير الشّعب وأثارت غضبهم؛ فخرجوا بمظاهرات تندّد بالمّستعِمر وتستنكر الإعدام، واعتُبِرت إحدى قصائد إبراهيم طوقان الخالدة والّتي لا تزال حاضرة في الذّاكرة الوطنيّة والعربيّة حتّى الآن.
من كلمات أغنية “من سجن عكّا” المأخوذة عن القصيدة:
“كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا عالموت
أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد، وصاروا مثل يا خال يا خال
طول وعرض البلاد…”
ومن “الثّلاثاء الحمراء” و”من سجن عكّا”، أخذنا الشّاعر طوقان إلى نشيد “موطني” المشبع بروح العودة حتّى قبل أن يحلَّ التّهجير والشّتات. النّشيد المعني بفكرة الوطن لا الدّولة.
فإذا كان لكلّ دولة نشيدها الوطني الخاص بها؛ فإنّ نشيد “موطني” أصبح منذ صدوره، يصدُح تلقائيّاً بلسان كلّ عربي، وصار النّشيد غير الرّسمي لفلسطين. اعتمده العراق بعام 2003 كنشيد وطني بدلاً من نشيد “أرض الفراتين” الّذي كان قائماً بعهد الرّئيس السّابق صدّام حسين. كما أنّه يُنشد ويُدرّس في كلّ المدارس الجزائريّة في مراحل الابتدائيّة. كذلك تُفتتح به معظم الاحتفالات والمناسبات الوطنيّة البهيجة وأيضاً بمقدّمة جلِّ المحافل الثّوريّة وهو أوّل ما يُستحضر في حالات الحروب وهتاف المسيرات والمظاهرات؛ لاعتبار كلماته رمزاً للوطنيّة بما تحمله من حبٍّ شديد للوطن وقوّة الانتماء له.
صدح هذا النّشيد بحناجر العديد من الفنّانين العرب، ومؤخّراً، وبعد حرب 7 أكتوبر؛ بحناجر جماهير أجنبيّة وغربيّة خرجت لتندّد بحرب الإبادة القائمة في غزّة وبممارسات الإحتلال الوحشيّة بحقّ الأهالي هناك، ودعماً للحقّ الفلسطيني المهدور.
غنّته بصوتها عام 2017 الفنّانة السّوريّة فايا يونان في فيديو كليب تناول الحرب الأهليّة السّوريّة. كذلك الفنّان الفلسطيني المحبوب، محمّد عسّاف وكثيرون غيرهم.
أمّا أغنية “يمّا مويل الهوا يمّا مواليّا، ضرب الخناجر ولا حكم النّذل فيّا”، فتعود إلى الفلكلور الفلسطيني النّضالي القديم في زمن الاستعمار البريطاني لفلسطين. وأتت لتؤكّد على أهمّيّة الحرّيّة والنّضال ضدّ المُحتَل. كتب كلماتها شاعر الثّورة، أحمد فؤاد نجم، أحد أهمّ شعراء العامّيّة في مصر. ولحّنها الشّيخ إمام.
جوليا بطرس تعيد إحياء “يمّا مويل الهوا”.
قامت الفنّانة الّلبنانيّة ومطربة المقاومة، جوليا بطرس، بإصدار هذه الأغنية من التّراث الفلسطيني، بقالب بسيط لكنَّه مؤثّر، بعد إعادة توزيعها الموسيقى وتسجيلها من قِبَل أخيها المُلحّن زياد بطرس، وأهدتها مؤخّراً إلى أهل غزّة، ترجمةً لمشاعرها الدّاعمة لنضالهم وآلامهم في تبنّي قضيّتهم.
وبأجواء بعيدة عن البذخ والبهرجة، تمّ تصوير الأغنية كمادّة توثيقيّة لحقيقة ما يحدث داخل القطاع مع التّركيز على إبراز أقسى الّلحظات في حياة الغزّييّن. وبمساهمة مشكورة من الصّحفي الفلسطيني الّذي ذاع صيته، خاصّة خلال الحرب، معتز العزايزة تمّ الحصول على المادّة الأساسيّة المطلوبة لتشكيل وإنهاء العمل؛ من صور وفيديوهات، قام بنفسه بأخذها وتسجيلها مباشرة من أرض القتال.
لاقت الأغنية ومنذ طرحها، نجاحاً كبيراً، وجرى تداولها بكثافة على مواقع التّواصل الاجتماعي، رغبت جوليا بطرس من خلالها، إيصال رسالة دعم ومؤازرة بصوتها للأهل الصّامدين في غزّة، فلامست قلوب سامعيها وأثارت حنينهم نحو فلسطين ونحو الفنّ الأصيل الهادف.
مَن فينا لم يدندن يوماً أغنية التّراث الفلسطيني القديم “هدّي يا بحر هدّي، طوّلنا بغيبتنا. ودّي سلامي ودّي للأرض اللّي ربّتنا”؟
والّتي أبدع فيها الفنّان الفلسطيني البسيط إبراهيم صالح المعروف بأبو عرب، شعراً وغناءً، وجعلها تُتلى من بعده، كنشيد جماعي يعبّر عن الوجدان المُتعب للشّعب الفلسطيني، الّذي بقي، وبالرّغم من ذلك، متشبّثاً بالأمل.
استهوت هذه الأغنية الكثير من الفنّانين العرب، فأعادوا تقديمها؛ سواء بصيغتها الأصليّة أو بتعديل في التّوزيع الموسيقي، مع الحرص على المحافظة على جماليّتها وبساطة لحنها وعمق معانيها.
أطرب مغنّي الثّورة اللّبناني مارسيل خليفة آذان ملايين العرب وكلّ من سمعه حين غنّى “شدّوا الهمّة، الهمّة قويّة، يا بحريّة هيلا هيلا، هيلا هيلا”. والّتي كان قد قدّمها في أحد مهرجانات جرش في الأردن وفي مناسبات وعلى مسارح عربيّة كثيرة أخرى. وكنظيرتها، “نشيد الانتفاضة“، لم يعرف كاتب هذه الأغنية أو ملحّنها. لكنّها اندرجت تحت التّراث الغنائي الوطني العام سواء في فلسطين أو في جنوب لبنان.
لمرسيل خليفة الكثير من الأغاني الوطنيّة الأخرى من شعر محمود درويش، القامة الشّعريّة الفلسطينيّة الثّوريّة في العصر الحديث. قام بأدائها بصوته وبعزفه على عوده الّذي لم يفارقه بكلّ أغانيه. مثل: أغنية “إنهض للثّورة وللثّأر” و“منتصب القامة أمشي” للشّاعر الفلسطيني سميح القاسم. وغيرها…
“أناديكم. أشدّ على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم”. من أهمّ ما أُضيف لأغاني الثّورة. وهي القصيدة الخالدة الّتي كتبها الشّاعر الفلسطيني “توفيق زياد” أحد مقرّري يوم الأرض والّذي ارتبط اسمه ارتباطاً عضويّاً بها، ويعتبر من الشّخصيّات الفلسطينيّة المحوريّة المؤثّرة. قاد العديد من الإضرابات وعلى مدى عقود متفاوتة منها إضراب صبرا وشتيلا بالعام 1982.
غنّى هذه القصيدة العديد من المطربين العرب وفي مقدّمتهم أحمد قعبور الفنّان الّلبناني الملتزم الّذي غنّى للقضايا الإنسانيّة والوطنيّة ومثّل في فيلم ناجي العلي.
بقي أن نقول بأنّه إذا كان بمقدور المستعمِر المحتل تدمير وإزالة جميع معالم وتاريخ وآثار الأرض الّتي احتلّها واستطاع تغيّير شكلها وإعادة تسمية مدنها وقراها بأسماء تُنسب إليه؛ غير أنّه لا يمكنه محو الكلمة واللّحن الّذي تعلّمناه وردّده آباؤنا وأجدادنا، من عقولنا وذاكرتنا؛ حتّى يتمّ التّحرير.