“ميثاق النساء” :ثورةُ الوعي ومفاجأة الأدب
سامي كليب
“عاش جدّي وجدّتي ثلاثين عامًا يفصلُهُما جدارٌ دون أن يراها أو تراه! وحتّى حين وافته المنيّة، لم يكن مسموحًا لها أن تودِّع جثمانَه أو تجلسَ في مأتَمِه. بكيتُ حين أخبرتني أمّي لاحقًا أنّه كان يطرق على الحائط في الليل يُناجي جدَّتي: سامحيني يا أم علي. يلعن الشيطان تسرّعت”.
كان يُمكن لقارئ رواية :”ميثاق النساء” الصادرة مؤخّرًا عن دار الآداب في بيروت، أن يغوصَ أعمق في محاولةِ فهمِ ذاك الجدار المتعدّد الوجوه والاستخدامات في بعض المُجتمعات المُغلقة، وكان يُمكنُه أيضًا أن يكتشفَ فنونًا وصنوفًا إضافيّة من ممارساتِ المجتمع الأبوي الذكوري، ومن كفاحِ بعض النساء لشقّ طريقهنَّ الصعب نحو حقوقِهنَّ الطبيعية من تعليمٍ وتفكير وحريّة في اختيار الزوج وأسلوب الحياة، لكنَّ المفاجأة الأكبر، وربما الأجمل، في هذه الرواية الأولى للشاعرة والكاتبة اللبنانيّة حنين الصايغ، هو ذاك السبك الأدبي الفريد، وسلاسة السرد، ومتانة الحبك، وفلسفة العبارات والمشاعر التي تُقارب حدود الصوفيّة في فهم العالم وكُنهِ الوجود.
حين رأت هذه الرواية النور، لاقت ترحيبًا خاصًا، من منطلق شجاعةِ ابنة الجبل في كسرِ بعض المُحرّمات، وشرحِ جملةٍ من العادات والتقاليد والمعتقدات عن طائفة الموحّدين(الذين يُطلق عليهم خطأً لقب الدروز)، وهذا صحيح إلى حدٍّ ما، بحيث أنَّ هذه الطائفة التي صارت أقليّة في لُبنان والمنطقة، وانحسر كثيرًا مجدُ تاريخِها العريق بفعل الغزوات الخارجيّة والجور العثماني والانحياز الغربي لمنافسيها المسيحيّين، والصراعات الإقليمية والدوليّة، وتنافس عائلاتِها الكُبرى، انطوت على نفسها، وتشدّدت في الحفاظِ على موروثاتِها، وأغلقت بابَ الاجتهاد، يقينًا منها بأنَّ ذلك عهدٌ عليها منذ فجر التاريخ، وأنَّه يحفظ جوهرَ الدين وسرَّ الميثاق وأسرارَ كُتُب الحكمة.
في رواية “ميثاق الناس” ( التي اقتُبس عنوانُها من ميثاق الموحّدين) شواهد كثيرة على نتائج ذاك الانغلاق والتشدد، وفيها أيضًا شواهد أكثر على شعورِ الدونيّة عند النساء حيال المجتمع الذكوري والخوف من عواقب مخالفة الدين، فنقرأ منذ البداية عن الفتاة أمل :” لقد علّمني الخوف أن اكتم صوتي، كانت صفقةً أبرمتُها بمُفردي مع الحياة كي أعيشَ بسلام” و :” كانت حماتي توصيني بألاّ أقولَ شيئًا عن ذهابي إلى المدرسة، قائلةً: اذا ابني ما بيفهمش مش ضروري كلّ الناس تعرف إنّو ما بيفهمش” و ” النساء بعد الامومة يصبحن أمّهات فقط، والرجال بعد الأبوة يبقون رجالاً” و ” كيف تسرّب لي شعور الجارية الذي يقول إنَّ هذا الرجل يملك جسدي” و ” ظننتُ طيلةَ حياتي أنَّ الوضع الطبيعي لحياة المرأة هو شعورُ المأزق “..الخ.
قصةُ أمل ابنةِ قرية ” عينصور” في جبل لُبنان والتي وجدت في الزواج القسريّ من سالم وهي في السادسة عشرة من العُمر فرصةً لعقد صفقة معه قوامُها التعلمّ مقابل القبول بالزواج، لا تُريد في الواقع تصفية حساباتٍ مع الرجل، بل مع قوانين مجتمع لا ينحصر بطائفة الموحّدين. ذلك أن هذه القوانين تنسحب على كلِّ المجتمعات المنغلقة، فالأب الذي يُجبر ابنتَه على الزواج باكرًا هو نفسه الذي تفهّمها في نهاية المطاف وبكي وتركها تعيش حياتها بعد الطلاق، والزوج الذي يسعى لجعل إنجاب طفلٍ قضيتَه الأولى بدلاً من استمرار تعليم أمل، يخضع في نهاية المطاف لمشيئتها، ولعلّه في مكان ما أيضًا ضحية العادات والتقاليد، وصهرُها ذاك الشاب القادم من أميركا للزواج من شقيقتها نيرمين المتمرّدة، يتفهّم رغبتها في الإجهاض ويبكي حُبًّا وحرقة. ونيرمين المتمرّدة تكاد تفقد عقلها حين اكتشفت أنّ أصول زوجها قد تكون بعيدة عن معتقدها فتُجهض وتطلّق. ( الجهل قتل تمرّدها، بينما الوعي أنقذ أمل في نهاية المطاف).
هي إذًا نماذجٌ من رجالٍ في مجتمع ” يخدع المرأة أحيانًا بتحسين شروط عبوديّتها ويُسمّي ذلك حريّة”.
لكن في هذا المجتمع الأبوي الذكوري، أيضًا ستتعرف أمل على الكاتب المصريّ حامد عبد السلام، المدافع عن حقوق المرأة والواسع الثقافة في تاريخ وحاضر النساء والمجتمعات والأديان، والذي تكون نقاشاتُها معه في أروقة الجامعة الأميركية في بيروت وفي المزارات الدينيّة وبين ربوع الطبيعة الجبليّة الخلاّبة أو عند شاطئ البحر، انعتاقًا كاملاً من كل الموروثات، وغوصًا صوفيًّا في فهم الحياة وجوهر الأديان وسرّ الانسان.
وهنا بالضبط ندخل مع “ميثاق النساء” في أسئلة الحياة وكنه الوجود:” هل صحيح أنَّ ما نتوق إليه بكلّ كياننا يحدث لنا بفعل قانون الجذب؟ أم أنّ الانسان يُلهي نفسه بهذه الأفكار كي يتحمّل قفر حياته؟ .. هل يمكن أن تكون الحياةُ بهذه الضحالة؟ هل يمكن أن نحلُمَ ونخطّط ونعمل ونذلّل الصعاب حتى نقفَ أمام صرح انتصارِنا ظَمِئينَ لاعنين الطريق وما تركه من تشوّهاتٍ على اقدامِنا وأرواحنا”.
لعلّ السؤال المحوريّ في هذه الرواية الأدبية بامتياز:” متّى يتوقّف الألم؟” وهو السؤال الذي تطرحه ابنةُ أمل عليها بعد الطلاق وقبل أن تتزوج من حامد وترحل معه إلى ألمانيا. وكان الجواب يُشبه إجابات كلّ أولئك الذين فهموا بوهيمية هذه الحياة وعبثيتها وعبورنا السريع فيها:” بي من التواضع ما يجعلني أدرك أنّني لا أستطيع إنقاذَك من هذا الوجع، ولكنّني أعرف يا صغيرتي أنَّ هذه المعاناة بالذات هي جوهرُ الحياة وسرُّها الأكثر قداسة، هذه المعاناة هي الخيطُ الرفيع الذي سيوصلكِ إلى قلبكِ حين تكبرين، فالكبارُ يا صغيرتي يفقدون قلوبَهم في زحمةِ الأشياء في دواخلهم. يكبر الجسد ويزداد القلب تيهًا في عتمةِ النفس، ولكنّني سأهبُك هذا الخيط، وسأذكّرُك دائما أنَّ في الجانب الآخر منه، في الجانب البعيد، سيكون قلبُك، وأنّ في قلبِك ستجدين الله والحب والحقيقة”.
“ميثاق النساء”، روايةٌ تضع حنين الصايغ على طريق كبار الأدباء، وتؤكد أن الوعيَ هو أساس التحرّر الحقيقي، وأنّ المُشكلة ليست في الدين بل في خزعبلات من ينصّبون أنفسَهم مكان الله، وفيها من المعاناة والحبّ والعمق، ما يجعلها في الكثير من مراحلِها قادرةً على التلاعب بمشاعر القارئ بين سوداوية مؤلمة، وحزنٍ دفين، وغضبٍ كامن، وبين رغبة في الصراخ تمرّدًا، وانعتاق يُشبه نسمَة صباحٍ ربيعي، وفرحٍ يُثيره الحبٌّ المقرونُ بفهم الحياة.
وفي “ميثاق النساء “أيضًا محاولةً للتخلّص من عبء كبيرٍ عبر طريق أدبٍ عميقٍ وأسلوبٍ شيّق مزروع بكلماتٍ منتقاةٍ بعناية وبساطة تُنير الدرب. لعلّ هذه الرواية الجميلة والممتعة والمؤلمة، تعكسُ بعضًا من حياة الكاتبة، أو هكذا يبدو. واذا كان “ التقمّص” عند الموحدين أحد أركان الدين، فإنَّ في هذه الرواية تقمُّصّا لأدوار كثيرةٍ عاشتها حوّاء أو عانتها أو ناهضتها منذ فجر الكون، وقد أبدعت حنين الصايغ في تجسيد الكثير منها.
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…