افتتاحية

بين الوليّ والحاخام أبعد من كفروشبا والغجر

بين الوليّ والحاخام أبعد من كفرشوبا والغجر

سامي كليب

في خطابه الذي اختتم به مراسمَ عاشوراء في العام 2019، ربط أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله ربطًا وثيقًا لا فكاك منه، بين” استراتيجية المقاومة” ومحورية الالتزام الديني والولاء المطلق لمرشد الثورة الإسلامية السيّد علي خامنئي. قال نصرالله حرفيا :”  نحن هنا من لبنان نقول للعالم كلّه إنّ إمامَنا وقائدَنا وسيِّدنا وعَزيزنا وحُسينَنا في هذا الزمان هو سماحة آية الله العظمى الإمام السيد علي الحسينيّ الخامنئي دام ظلُّه وإنَّ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران هي قلب المحور وهي مركزُه الأساسيّ وهي داعمُه الأقوى وهي عنوانُه وعنفوانُه وقوّتُه وحقيقتُه وجوهره “.

لا يُمكنُ مُطلقًا فهمُ استراتيجية حزب الله في المنطقة، وتشديدُه على الموقع ” الاستراتيجي” لرئيس الجمهوريّة، وعلى دور لُبنان في هذا المحور، الاّ من خلال هذا المفهوم الدينيّ العميق الذي يربط الحزبَ بإيران على نحوٍ وثيق، ويربط الطرفين بمفهومِ التراث الشيعيّ الحُسينيّ الاثني عشري. وبالتالي فإنّ كلّ ما يُقال عن مستقبل النظام السياسيّ اللُبناني، وعن قضايا الحدود وكفرشوبا والغجر ومزارع شبعا وغيرها، وعن آفاق الصراع مع إسرائيل، يفقد كلّ أهميّتَه، ما لم يُنظر إليه من هذه الزاوية الدينية الشرعيّة التكليفيّة.

تكتسب هذه الصفة الدينيّة بُعدًا عميقًا في ذهن نصرالله وأذهان مقاتلي الحزب. حتى لتكاد بعضُ روايات من قاتَل منهم إسرائيل في العام ٢٠٠٦ تربط الجزء الأكبر من أسباب الانتصار بهذا البعد الدينيّ. فيروي المقاتلون حكاياتٍ كثيرةً عن رؤى في خلال المعركة، وعن صاروخٍ كان يستهدف دبابةً فأصاب بالصُدفة منزلًا اجتمع فيه قادةٌ إسرائيليون.

في كتابه ” الولي المُجدد” يشرح نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم الأفكار التي نقلها عن خامنئي بالنسبة للبعد الايماني في قضية فلسطين. فنقرأ ان مرشد الثورة يقول:

* إن قضيّة فلسطين بالنسبة للجمهوريّة الإسلاميّة ليست أمراً تكتيكيًّا، بل هي أمرٌ بنيوي أساسيّ ناشئ عن الاعتقاد الإسلامي.

    *  إن تكليفَنا بأن نُحرّر هذا البلد الإسلاميّ من سُلطة وقبضةِ القوّة الغاصبةِ وحماتِها الدوليين وبأن نُرجعها إلى شعب فلسطين، إنما هذا تكليفٌ دينيٌّ وواجبٌ على جميع المسلمين.

*    إن قضيّة فلسطين قضيةُ عقيدٍة وقضيةٌ إنسانيّة وليست مجرّد قطعة أرض، هي ليست قضيّةً سياسية أو قضيّةَ نفودٍ إقليميّ ودوليّ فهي قضيةُ إيمان واعتقاد وهي ستتحرّر.

*    فلسطين سوف تتحرّر ولا يخالجكم أي شكّ أو شُبهة في هذا الخصوص، فلسطين ستتحرّر وهي يقيناً ستعود إلى أهلِها.

هذا اليقين الإيمانيّ بتحرُّر فلسطين، يقابله في المعتقدات اليهوديّة والمسيحيّة الانجيليّة الاصوليّة، قناعةٌ بدمار إسرائيل قبل عودة السيد المسيح ثم الانتصار على كلّ الاعداء. ومَن يُراقب ازديادَ نسبةِ جنوح الخطاب الدينيّ الاسرائيليّ صوب التعصّب والتشدّد والعنصريّة في الحكومات أو حتّى المؤسسة العسكريّة في السنوات القليلة الماضيّة، يُدرك دون جُهدٍ كبير، بأنّ القناعات الدينية والماورائيات والغيبيّات، صارت تتحكم بمفاصل الصراع أكثر من أي شيء آخر، وهي التي قد تُفجّره في أي لحظة بالرغم من الضوابط الأميركيّة والدوليّة المعهودة.

يدعمُ هذا الطرح الإسرائيلي العنصريّ، والذي استباح جينين ونابلس في الأيام القليلة الماضية، والراغب بطرد الفلسطينيين من مناطق واسعة من الضفة واستكمال تهويد البشر والأرض والشجر، عنصريون آخرون وأكثر خطورة، وهم من يُسمّون ب” الانجيليّين الجدد” أو ” الانجيليّين الصهاينة” وقد بات عددُهم في الاميركيّتين الشماليّة والجنوبيّة يربو على 100 مليون شخص، يملكون الكثير من وسائل الاعلام والمال والتأثير.

ماذا يعني كل هذا ؟

نحن أمام فترة خطيرة جدا ذلك ان كلّ شيء قابلٌ للتسويات الاّ القناعات الدينيّة. لعل موجات الإرهاب والتكفير الرهيبة التي اجتاحت المنطقة في السنوات القليلة الماضية وجلبت معها عقولا مغسولة من دول العالم قاطبةً، وعقولاً أخرى جاهزة للانتقام من ” الآخر” و تستند إلى تفسيرات غريبة  ومُضلِّلة لنصوص اسلاميّة عريقة، كانت خيرَ شاهدٍ على قسوة ودمويّة هذه الحروب التي جعلت المسلم يُبسمل ويُحمدل وهو يذبح مُسلمًا آخر في شرقنا ، والبوذي  المعروف بتسامحه يذبح المسلم ويهجّره ويهدم قراه في بورما، وبوكو حرام وداعش ينهشان أجساد المسلمين والمسيحيين من نيجيريا حتّى أدغال افريقيا ومدنها، والمسلم الأيغوري الصينيّ والأوزبكيّ والشيشانيّ  يُآخون المسلمَ الاوروبي في مذابح الدم في ما يصفونه بالجهاد الدموي لإقامةِ الخلافة العتيدة، بينما الُمسلمان الشيعي والسُنيّ في شرقنا كادا يغرقان بحروب دمويّة تمتد لمئة عام أخرى.  

يأخذ هذا المشهد اليوم بُعدًا خطيرًا بين تشدّد محور “المقاومة والممانعة” المستند خصوصا الى عمق ديني (شيعي في إيران وعند حزب الله، وسُنيّ عند حماس والجهاد) وتطرّف المحور الإسرائيليّ الإنجيليّ. وطالما أنَّ كلَّ طرفٍ يعتبر أنَّ هذه فرصتُه الدينيّة والسياسيّة للانتصار على الآخر، فمن الصعب التفكير بمستقبل تفاوضيّ سلميّ الاّ حين تقتضي مصلحةُ الطرفين ذلك، كما حصل في ترسيم الحدود البحريّة بين لُبنان وإسرائيل.  فمثلُ هذه الاتفاقيات، تؤجل الحروب ولا تُلغيها.

  فكيف لا نكون فوق برميل بارود في هذا الشرق الذي تحوّل إلى مهد الحروب ولحدِ ناسِها، بعدما كان مهدَ الأديان ومنارةً للعلوم والحَرْفِ والحضاراتِ الإنسانيّة.

ثم ماذا لو طرحنا سؤالاً آخر؟: فإذا كانت كلُّ اتفاقياتِ “السلام” منذ مؤتمر مدريد مرورًا بأوسلو وعملياتِ التطّبيع العربيّة وقمّة بيروت للسلام عامَ 2002، لم تؤدّ إلى أيّ تقدّم على المسارِ التفاوضيّ السلميّ، وإذا كانت القناعاتُ الدينيّة تزداد حضورًا في المنطقة، مَن يستطيع بعد اليوم لجمَ حربٍ كُبرى تُكمل الدمارَ وحماماتِ الدم والدموع؟

ما لم نجد جوابًا منطقيًّا على هذا السؤال، و ما لم يضع العربُ مشروعًا موحَدًا وموحِّدًا لحلٍّ عادلٍ ومُنصفٍ للقضيّة الفلسطينيّة قبلَ كلّ شيء، وإقناعِ العالم بأنّه لا يُمكن القبولُ بأيّ حلّ منقوصٍ لا يُعطي الفلسطينيّ دولةً كاملةَ الاوصافِ ومُستقلّة، فإنَّ المنطقةَ برُمَّتها ستبقى فوقَ بُركانٍ قابلٍ للانفجار الدينيّ في أيّ لحظة. فالخطرُ اليوم لا يُشبه أبدًا مخاطرَ الأمس، ليسَ بسبب ترسانات الأسلحة الاستراتيجيّة لدى المحورين، وإنّما لأنّ فوق هذه الترسانات، توجدُ قناعاتٌ دينيّة سيكون من المستحيل ضبطُها في المُستقبل.

لعلّ التقارب الايرانيّ السُعودي، الذي أعقب الخطوات الجريئة جدًّا من قبل وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان، للجم التطرف والغلوّ الدينيّين، وإعادة النظر بالفكر الوهّابيّ نفسه، يفترض مقاربةً أخرى لما بقي من صراعٍ عربيّ اسرائيليّ، ولما بقيّ من أزمات المنطقة وبينها لُبنان، يؤكد من جهة على الحق الفلسطيني في إقامة دولة مُستقلّة وسيّدة، ويفيد من المحاور الدوليّة بين الغرب والشرق، لفرضِ معادلةٍ سلميّة مُغايرة وأكثر فعاليّة من كلّ ما حصل سابقًا، ويُساهم في التسويات المحليّة ويُشجّع  على الحوار والتوافقات.

هذه فرصةٌ نادرة، قد تدفع صوب إنفراجاتٍ حقيقيّة لو استُغّلت نظرًا لحاجة الأطراف الدوليّة المُلحّة لدول المنطقة وثرواتها ومعابِرِها، أو تؤدي إلى انفجاراتٍ كُبرى خدمةً لمصالح الآخرين، وتتقدم فيها القناعات الدينيّة  التفجيريّة على الخيارات السياسيّة التفاوضيّة، خصوصًا أنّ شبابَ فلسطين أثبتوا جيلاً بعد جيل أنّهم لن يتعايشوا مُطلقًا مع آخر نظامِ فصلٍ عُنصريٍ دمويّ حاقد في العالم.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button