دير شبيغل الالمانية: لبنان مجموعة شظايا تُسمّى بلدًا
دير شبيغل الالمانية: لبنان مجموعة شظايا تُسمّى بلدًا
خافيير فون كراناخ-دير شبيغل
من بين العديد من الأشياء التي يمكنك القيام بها بدهشة لو كنتَ في بيروت، هو أن تأخذ ما يلي بعين الاعتبار: كتب التاريخ خالية من أي شيء منذ العام 1943. لم يحدث أي شيء مُذّاك. التاريخ ينتهي ببساطة هناك، أي عند نهاية الانتداب الفرنسي، وبداية الاستقلال، وأرز أخضر على علم أحمر وأبيض ثم الخاتمة.
لا تجد في لبنان شيئاً عن “العصر الذهبي” في الستينيات والسبعينيات. لا شيء عن الحرب الأهلية التي ابتُليت بها البلاد لمدة خمسة عشر عاماً. لا شيء عن إعادة الإعمار.
في لُبنان ١٨ طائفة معترفٌ. انتهت الحرب الأهلية التي امتدت من ١٩٧٥ إلى ١٩٩٠ بعفوٍ عام عن جميع أمراء الحرب. يحكم حزب الله بعضَ أحياء بيروت، لكن بإمكانك في أحياء أخرى من المدينة أن تزور خمّارة أو حتّى حانةً للمثليين. لبنان بلد غير مجزّأ، هو عبارة عن مجموعة شظايا تُسمّى لُبنان.
يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون. وهذا يعني أنّه في غياب الفائز، لا أحد يكتب. عندها لن يصبح الحاضر تاريخاً، لا أزمة اقتصادية، لا انفجار 2750 طناً من نيترات الأمونيوم في المرفأ دمّرت أحياء بأكملها، لا هجرة.
العيش في بيروت هو عيش اللحظةِ إلى الأبد. هي أبديّة اللحظة إذًا، يمكن أن يكون ذلك وعداً إذا أبليت بلاءً حسناً، أو تصبح جحيماً إذا أخطأت الخيار. وفي بلد تنقطع فيه الكهرباء باستمرار، وتفقِدُ العملةُ قيمتَها كلّ يوم أكثر، تبدو الدولة مُجرّد قناع أو غلاف ، يتوجب على الناس تفسير كل ضربة جديدة على أنها مصير لا مفر منه. لكن ماذا لو كنت لا تريد قبول هذا المصير؟
تم تدميرُ أحياء سكنيّة بأكملها، أعيدَ تصميمُها بعد الحرب في وسط المدينة، أبراج زجاجية حديثة بُنيت بذريعةِ إعادة إحياء المدينة. يقول البعض إنّ إعادة الإعمار هذه تجلب الأموال من الخارج وتمحو آثار الحرب. المشكلة في لبنان أنّ لا أحد يحبّ تذكُّرَ هزيمته ، ناهيك عن فظاعة المذابح التي ارتكبها اللبنانيون بحقّ بعضهم البعض. لقد أطلقوا على هذه الحركة إعادة الإعمار، لكن تسميتها الحقيقية هي الدمار.
“مجزرة الفندق”
خلال الحرب الأهليّة، تناحرت الميليشيات المسلمة والمسيحية في الفنادق التي كانت مبنيّة حديثاً، يعود ذلك لكون المباني الشاهقة مواتية استراتيجياً للقتال. احتدمت المجازر لمدة خمسة أشهر في وسط بيروت وبين الفنادق. يُمكن لمن عاصر تلك الحرب الأهلية أن يؤلف كتباً عن هذه التجربة أو ربما أطروحة دكتوراه بعيداً عن الأكاديمية.
سرعان ما تشعر عندما تقف أمام الأوتيل أن حدثاً مخيفاً حلّ على المنطقة. عندما حاولت أن أسأل بعض اللبنانيين من جيل اللذين عاصروا شيئاً من الحرب الأهلية، من شرائح مجتمعية مختلفة، عمّا شاهدوه وعاشوه، فراحوا يتحدّثون بشكل متقطّع ليس بسبب ما فاتهم من أحداث بل لرفع التهمة، تهمة المشاركة في المجازر عن فريق ما زالوا ينتمون إليه. انتابني شعور خلال تحضيري لمادتي هذه أن أحداً منهم لا يعرف سبب اندلاع الحرب واستمرار تداعياتها حتى اليوم.
ما زالت هذه الحرب التي قسّمت المسيحيين والمسلمين حاضرة في بيروت، لا بل إنَّها منتشرة في كل مكان وعلى جميع الأصعدة؛ كل شيء يُذكّر بالحرب الأهليّة في لبنان، ثقوب الرصاص على واجهات المنازل…كل شيء…
ولكن هناك أيضا النظام السياسي الذي بدأ مع نهاية الحرب: فكيلا يغضب أحدٌ من المجموعات التي شاركت في الحرب، تمّ توزيع السلطة السياسية في نهايتها بشكل دقيق جداً. رئيس الجمهورية تقليدياً هو مسيحي ماروني، رئيس الحكومة مسلمٌ سني، ورئيسُ مجلس النواب شيعي. فبسبب العفو العام الذي تمَّ منحه لقادة الميليشيات في ذلك الوقت، ما زالت الكلمة الفصل لهؤلاء القادة حتى اليوم.
اليوم يمكن رؤيةُ عددٍ لا يحصى من ثقوب الرصاص في الأبنية، وذاك البيت، الأصفر اللون المخترق بثقوب الرصاص ،يُطلق عليه اليوم اسم “بيت بيروت”، وقد صار متحفًا، نظّمت فيه إحدى فنَّانات بيروت الشابات، منى حلاّق، معرضاً بداخله. جمعت هذه الفنّانة آثارَ المدينة، وكلَّ ما كانت تجده في اوتيل Excelsior وفي غيره من مباني المدينة المهدّمة، حوّلت قطع الأثاث البالية و الصورَ المرميّة في المنازل التي هُدّمت جراء الحرب، و حتى ألبسة، إلى “تُحفٍ أثرية” ، لكن الكنز الأكبر هو المبنى نفسه. إنه بناءٌ غير عادي، ويلفت الأنظار على الفور: هو عبارة عن مساحة فارغة، في زاوية الشارع، حسناً، ليس للشارع زاوية، زاوية الشارع مفقودة، وكأنّما المهندس المعماري تعمّد بذلك بناء خطوطٍ تصدم النظر.
عندما تمشي في المنزل، يمكنك أن ترى فجأة من الخلف جميع الغرف وصولا إلى الشارع، لا شك أن هذا المنزل من خلال موقعه كان آلة قتل غير عادية، استقرَّ القناصة فيه خلال الحرب و حوَّلوا المنطقة إلى ساحةٍ للموت. لماذا لا يحوّل اللبنانيون أبنية كهذه إلى مبانٍ تذكارية، حيث تُروى حكاياتُ بيروت ومشاهيرها، لا شك أنّها انجبت كثيرين.
في بيروت ما زال الفاعل حتى اليوم مجهولاً، كُثُر يجهلون مصير مفقوديهم، لم يعترف أحدٌ بخطأه، وحتّى يعرف الجيل الجديد المزيد، عليه أن يكتشف الحقيقة من خلال تنصّل الزعماء عن مسؤوليتهم.
لا يوجد صيغة رسمية للبنان، كلُّ مسؤول يعمل وفق أجندته، لبنان بحاجةٍ إلى رواية موحّدة عن تاريخه: من هنا نبدأ، لا أن يصنع كلٌّ تاريخَه وفق مصالِحه حتى يتسنّى للبنانيين أن يعيشوا في المستقبل.