لبنان: دبلوماسيّة الذل قبل وبعد مؤتمر باريس
سامي كليب:
سمح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنفسه في زيارتيه إلى لُبنان بتأنيب المسؤولين السياسيّين، وكذلك فعل وزيرُ خارجيته السابق جان ايف لودريان أكثر من مرّة علانيّة أو في الغرف المُغلة. يُدرك الرجلان كما وزيرة الخارجيّة الحاليّة كاترين كولونا، أنَّ هذه الطبقة السياسّية ميؤوسٌ منها في مجال الإصلاح، وانَّ النظام اللُبنانيّ “الفاشل” على حد تعبيرهم، يحتاج إصلاحًا جذريًّا، لكنَّهم يصطدمون بعقدتين، أولاهُما عدم القدرة على المساس بالأسس الطائفيّة والمذهبيّة لهذا النظام، وثانيهُما عدم رغبة الناس بالانقلاب على زعمائهم بالرغم من الفقر والفساد والقهر.
قالت كاترين كولونا، وهي دبلوماسيّة عريقة وذاتُ معرفةٍ دقيقة بشؤون لُبنان والمنطقة منذ كانت ناطقةً باسم الخارجيّة ثم باسم الرئيس جاك شيراك، إنَّ “الشعب اللُبنانيَّ هو الذي يعاني وليس القادة بطبيعة الحال، وقد بات مُلحّاً أن يكفّ المسؤولون اللبنانيون عن إعاقة الإصلاحات” داعيةً إلى “انتخاب رئيسِ إجماع، وتعيين حكومة تعمل من أجل تحقيق مصلحة البلد، وتنفيذ إصلاحات تتيح لصندوق النقد الدولي التدخل”، وكاشفةً أن الهمّ الأول للأسرة الدوليّة أمامَ هذا ” النظام الفاشل” هو مساعدة اللبنانيين والنازحين السوريين والفلسطينيين على العيش بكرامة.
ما عاد للُبنان قيمةٌ فعليّةٌ بنظر المجتمع الدوليّ الاّ ما تحتاجُه الحدود مع إسرائيل وسوريا، وما يَعِدُ به البحرُ من ثروةٍ غازيّة، وما يفرضه توطينُ النازحين واللاجئين الفلسطينيين والسوريّين لاحقًا. فالجميعُ في الخارج من غربيّين وعرب، ينظرون إلى لُبنان، على أنّه مجموعةُ عصاباتٍ فاسدة ومتناحرة فوق جثّة الدولة، ومجموعةُ قبائل تتصارخُ شَرَفًا، وهي لم تترك موبقةً الاّ وارتكبتها، ومجموعةُ طوائف تتعايشُ قسرًا بانتظار فدراليّة أو تقسيم.
ينظرُ الغربيّون وكثيرٌ من العرب حاليًّا الى لُبنان، على أنّه دولةٌ فاشلة، تحتاج الى ” ضبط” وليس ” رعاية”. ومن هذا المنطلق ” الترويضي” الذي يُذكّرنا باتفاق الرئيسين جاك شيراك وجورج دبليو بوش ضد ما وصفاه سابقا ب ” القوس الشيعيّ”، تتكثّف التحرّكات الدبلوماسيّة الدوليّة والعربيّة، وبينها مؤتمر باريس الذي يضمُّ فرنسا والولايات المتحدة، ومصر والسعودية وقطر. فهو سيضع للمسؤولين اللُبنانيّين ” الفاشلين والفاسدين” وفق التعبيرات الغربيّة، “مدوّنة سلوك” في كيفيّة انتخاب رئيسٍ واختيار رئيسِ حكومة، والسير في طريق الاتفاق مع صندوق النقد الدوليّ والقبول غصبًا بالتوطين.
ستنصاعُ أطرافٌ لُبنانيّة لهذه المدوّنة، فتمدح وتُهلّل، وستُعارضُها أطرافٌ أخرى، فتقدح وتعرقل. لكن لا المهلّلُ يعرفُ كيف يوظّف القرارات التي ستصدر لمصلحة البلد وليس لحربه ضد الطرف الآخر، ولا المعرقلُ يُدرك سبيلاً آخر لإنقاذ الوضع الاقتصادي، تمامًا كما كانت حالُه حين قَبِل مُرغَمًا بترسيم الحدود البحريّة مع العدو.
قمّةُ الذُلّ في أي وطنٍ، هي انتظارُ حلولٍ من الخارج يُقرّرها الآخرون. وقمّةُ الغباء، هي في الاّ يقرأ ساسةُ هذا البلد التحوّلات الكُبرى إقليميًّا وعالميًّا، فيسلمون مفاتيح الوطن للخارج. ألم يحصل هذا، في اتفاق القاهرة عام 1969، وفي الاتفاق الثلاثي في دمشق، وفي اتفاق 17 أيار مع إسرائيل، وفي اتفاقات الطائف والدوحة وغيرها؟
لا يوجد بلدٌ في العالم، هزمَ عدوه، ثم انهزم داخليًّا بهذه الشراسة كلُبنان، لانّ كلّ الداخل، مرتبطٌ بمشاريع وقرارات وايديولوجيات خارجيّة، ولانّ كلّ طرفٍ داخليّ يعتقد أنّه بقهرِ الشريك الآخر، يفرضُ رأيه، ولانّ كلّ طائفةٍ شعرت في لحظةٍ ما من تاريخ هذا الوطن الجريح الصابر الصامت المقهور، بأنّها سيّدةُ اللُعبة، بينما في حقيقة الأمر، كانت كلّ الطوائف، وما زالت، مجرّد أحجارٍ على رقعة شطرنج، يربحُ اللاعبون حولها وينهزم الوطن.
تخيّل يا عزيزي القارئ، لو أنّ سفيرًا لُبنانيًّا يتدخلُ في أيّ دولةٍ خارجيّة، حتّى ولو وكانت من جمهوريات الموز، في اختيار رئيس، أو في تحديد مواصفات رئيس، هل كان سيُقبل أم يُطرد شرَّ طردةٍ. وتخيّل أيضا، أعزّك الله، لو أنّ رئيسًا فرنسيًّا أهان الطبقة السياسيّة في الجزائر مثلاً… هل كان سيبقى فيها دقيقةً واحدة؟
الذلُّ أيها القارئ الكريم والمقهور حتمًا، ليس وجهة نظر، وهو ليس حُكرًا على طبقة سياسيّة فاسدة أو فاشلة، بل هو أيضًا صنيعةُ شعب، ارتضى معظمُه ” العبوديّة الطوعيّة” للزعماء، كما يصفها الكاتب الفرنسي “إتيان دو لا بويسي”… فلننتظر إذًا طائعين صاغرين، ما سيقرّره مؤتمر باريس من مواصفات لرئيس الجمهوريّة والحكومة والإصلاحات، فنقبل او نتقاتل… وعلى الأرجح سنتقاتل، فهذا وحدَه ما بَرَعْنا به منذ فجر التاريخ اللُبنانيّ.
الكاريكاتور المُرفق من صحيفة الرؤية الاماراتية