مقال اليوم

  “الشّلليّةُ” والشَّلل… أسئلةُ ضعفِ الـمُثقَّف  

  “الشّلليّةُ” والشَّلل… أسئلةُ ضعفِ الـمُثقَّف  

د. محمد الحوراني *:

   ثمّةَ كثيرٌ من الأسئلةِ التي يطرحُها الواقعُ أمامَ الدَّور الـمَنُوطِ بالـمُثقَّفِ في واحدةٍ من أعقدِ المراحل التي يمرُّ بها العربُ خصوصاً، والعالـمُ عموماً، بل إنّ صفةَ المُثقَّف أصبحتْ ممجوجةً لدى بعضِهم، وهو ما يغيظُ المُثقَّفَ الحقيقيَّ بعدَ أن تحوَّلتْ هذه الكلمةُ شتيمةً وَفْقَ تعبير “سيمون دو بوفوار” في رواية “المُثقَّفُون”، فقد كانَ تأثيرُ المُثقَّفِينَ في المُجتمَعِ كبيراً، ولا سيّما عندَ شريحةِ الشَّباب، بعدَ أنْ أصبحَتْ فلسفَتُهم هي المُسيطرةَ على كثيرٍ من النَّاسِ لامتلاكِها إجاباتٍ صادمةً عن أسئلةٍ بالغةِ التَّعقيدِ أفْرَزَها الواقعُ وقتَئِذٍ، ولعلَّ صراحَةَ الرِّوايَةِ جَعَلَتْ منها مصدراً يَصْعُبُ التَّشْكِيكُ فيهِ أو التقليلُ من قِيمَتِهِ، لكنَّ ما حدَثَ لاحقاً أنَّ هذه الثِّقةَ تراجعَتْ بسببِ انْكِفاءِ المُثقَّفِ وضبابِيَّتِهِ وابتعادِهِ عن هُمومِ شَعْبِهِ ومُجتمَعِهِ ودُخُولِهِ منظومةً “مافويّةً” و”شلليّاتٍ” مقيتةً أدّتْ إلى ضَرْبِ الصُّورَةِ الحقيقيّةِ للمُثقَّفِ، الّذي كانَ يُنظَرُ إليهِ على أنّهُ يقومُ بدورٍ رَسُوليٍّ مُقدَّسٍ، وهُوَ ما أدّى إلى تراجُعِ الثِّقةِ بهذا المُثقَّفِ أو انْعِدامِها في بعضِ الأحيانِ بسببِ تقديمِهِ ثقافةً مَغْشُوشَةً تتعاطى معَ الأشياءِ مَظْهَرِيّاً بنظرةٍ سطحيّةٍ جَعَلَتْنا نعتقدُ أنَّ المُثقَّفَ هُوَ فقط ذلكَ الإنسانُ الحائزُ عدداً من الشَّهاداتِ والمُؤهِّلاتِ، الّتي تَمْنَحُها جِهاتٌ أكاديميّةٌ أو غيرُ أكاديميّةٍ في كثيرٍ من الأحيان، فظهرَتْ فئةٌ مِنَ “المُتعالِمِينَ” الجَهَلَةِ المُنْفَصِلِينَ عن واقِعِهِمْ وعن مُعاناةِ شُعوبِهِمْ، بلْ إنَّ تركيزَ بعضِهم على نيلِ المُؤهِّلاتِ العلميَّةِ دُونَ الغَوْصِ في المُشكلاتِ المُجتمعيّةِ ومُحاولةِ إيجادِ الحُلولِ المنطقيّةِ لها، أصابَ عدداً من المُثقَّفينَ العرَبِ بالانْهِزاميّةِ وعُقْدَةِ النَّقْصِ، وهو ما أدّى إلى أثرٍ سلبيٍّ في الخِطابِ الثَّقافيِّ العربيِّ الّذي قدَّمَهُ هؤلاءِ، فغَلَبَتْ عليهِ الحَسْرَةُ والجُبْنُ والعَجْزُ عن الاقترابِ من المُشكلاتِ الحقيقيّةِ الّتي يُعاني منها المُجتمعُ، وغدا هذا الخِطابُ مُتخلِّفاً مُتَهالكاً لدى كثيرٍ منهم، ولعلَّ سَبَبَ هذا يعودُ أيضاً إلى ارْتِماءِ قسمٍ كبيرٍ منهم في أحضانِ السُّلطاتِ وتقديمِ أنفُسِهمْ على أنّهُم فُقهاءُ السُّلطاتِ المُستبِّدةِ والأنْظِمَةِ القَمْعيّةِ، وقد جَعَلُوا المشهدَ الثقافيَّ ساحةً للَّعِبِ، وهُوَ ما أدّى إلى خَلْقِ أزمةٍ مِعْياريّةٍ حادّةٍ يُبَرْهِنُ على وُجودِها تغييرُ القوالبِ الذِّهنيّةِ لصُورَةِ المُثقَّفِ الفِكريّةِ وأبعادِها العاطفيّةِ، كما أنّها قتلَتِ الرُّوحَ النِّضاليّةَ الثَّوريّةَ في أعماقِهِ، بعدَ أنْ جرَّدَتْها مِنَ الجُرأةِ والموقفِ النّابعِ من الثقافَةِ الحقيقيّةِ، فغَدَتِ الانتهازيّةُ هيَ المُسيطرَةَ على بعضِ المُثقَّفينَ المُسْتَعِدِّينَ لتغييرِ قناعاتِهِمْ وخَلْعِ مبادِئِهمْ ورَمْيِها كما يَرْمُونَ أحذيتَهُمُ الباليةَ معَ استعدادِ عددٍ كبيرٍ منهم لتأجيرِ ألْسِنَتِهِمْ وأقلامِهم. وبذلكَ أصبحَ المشهدُ الثقافيُّ مُصاباً بالعَوَرِ، بل العمى، وأصبحَ المُثقَّفُ الرصينُ الأصيلُ غيرَ قادرٍ على القيامِ بدَورِهِ الحقيقيِّ بعدَ أن لُوِّثَتْ صُورَةُ المُثقَّفِ وشُوِّهَتْ، فغدا عُرضةً للسُّخريةِ والتَّحكُمِ وعدمِ الاحترامِ عِندَ السَّاسَةِ وعندَ فئةٍ كبيرةٍ من أبناءِ شَعْبِهِ، ولهذا  فإنّهُ لا يُمكِنُ لأحدٍ أن يتحدّثَ عن دورٍ حقيقيٍّ للمُثقَّفِ قبلَ إنكارِهِ الانْتِهازيَّةَ وتَخَلِّيهِ عنها وتَخلُّصِهِ من التَّصلُّبِ العقليِّ والدوغمائيّةِ والشّلليّةِ والمافويّةِ المُتحكِّمةِ بهِ ورَفْضِهِ أن يكونَ مُنْتَعَلاً من السِّياسيِّ أو تابعاً لهُ في أحسنِ الأحوال. لقد آنَ الأوانُ لكي يُصبِحَ المُثقّفُ قُوّةَ معرفةٍ ومُحاسَبةٍ وخَلْخَلةٍ للنُّظُمِ الفاسِدَة، مهما اشتدّتِ الظروفُ والضُّغوطاتُ السِّياسيّةُ، وهذا لا يتحقّقُ إلّا باستقلاليّةِ المُثقّفِ واعتمادِهِ بقُوّةٍ على المعرفةِ الحُرّةِ المُستقلّةِ والضَّميرِ الفرديِّ والوَعْيِ بالخيرِ العامِّ دُونَ أن يعنيَ هذا أنْ يُضْفِيَ العِصْمَةَ على نَفْسِهِ، وأنْ يَسْتَأثِرَ بالحقيقَةِ دُونَ سِواه. إنّنا في أمسِّ الحاجةِ إلى ثورةٍ ثقافيّةٍ كتلكَ الّتي عرفَتْها الصِّينُ في نهايةِ عام ١٩٦٥، إذْ دَعَتِ العناصرَ اليساريّةَ الأكثرَ راديكاليّةً في قمّةِ الحزبِ إلى تطهيرِ صُفوفِهِ من العناصرِ البرجوازيّةِ، وإلى تغييرِ المُجتمعِ الصِّينيِّ تغييراً جَذْريّاً بوساطةِ الحَمِيَّةِ والمُثُلِ الثَّوريّةِ وفِكْرِ “ماو تسي تونغ”، وقد آنَ الأوانُ لثورةٍ ثقافيّةٍ تُخلِّصُ المشهدَ الثقافيَّ ممّا عَلِقَ بهِ من شوائِبَ وأدْرانٍ وطُفَيليّاتٍ جَعَلَتْهُ عاجزاً عن القيام بالدَّورِ التاريخيِّ والمُجتمعيِّ الّذي ينبغي لهُ القِيامُ بهِ في لحظاتِ الانْسِدادِ التاريخيِّ التي نَعِيشُها.

الكاتب: د.محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب في دمشق وكاتب وباحث ومؤلف مجموعة من الكتب السياسيّة والأدبية

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button