ثقافة ومنوعات

رجل الدين بين الإنصاف والتجني

الشيخ كامل العريضي : 

يتمتع رجال الدين في معظم المجتمعات بتقدير واحترام، لما لموقعهم الروحي من أهمية في حياة المؤمنين. لا سيما في ما يتعلق بالأمور الدينيّة من حلال وحرام وعبادات ومواريث، والجائز وغير الجائز، واستفتاءات خاصة بحياتهم. هذا بالإضافة إلى دورهم العام على الصعيد الوطني وانتظار المجتمع لكلمتهم عند كل قضية مفصلية، وقد يكون لبعضهم دور بارز في محاربة الفساد وقيادة الثورات ومواجهة أي احتلال أجنبي لبلدهم.
وبالمقابل، هناك فئة من الناس تهاجم رجال الدين هجوما شرسا، وتعدّهم أساس التخلف والرجعية،  وعنوان الانقسام والتعصب والطائفية، وتتهمهم بأنهم التجار الأكثر ثراء، بسبب تجارتهم المربحة بعقول الناس، باسم الله، وتوجبُ منعهم من أي كلام سياسي أو اجتماعي.
أمام هذا الواقع، نطرح سؤالا: هل حقا رجال الدين هم المفسدون في الأرض؟  أم إنّهم المصلحون؟ هل يتحملون كل تلك التبعات المخيفة؟ أو يتم التجني عليهم؟
يجب الأخذ بعين الاعتبار أن رجل الدين هو مواطن كغيره من المواطنين، ويتمتع مثلهم، وبالتوازي بحقوق وواجبات أقرها الدستور، ويحق له ممارستها ضمن الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء، وأيّ خطأ يقوم به، من مخالفة لتلك القوانين فهو يمثله شخصيا، ويجب محاسبته كأي إنسان آخر، ويُمنع اعفاؤه أو مسامحته لأنه رجل دين، فهذه الصفة تحمّله مسؤولية الالتزام بالقوانين أكثر من الآخرين، لأن مَنْ يطبّق شرع الله ويدعُ إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، فعليه أن يبدأ بنفسه أولا.

وهنا ينبغي القول، بأنه ليس كل رجال الدين يقومون بما يجب عليهم القيام به، لا بل البعض يستغلّ هذه الصفة لمكاسب خاصة ومنافع شخصية، ولكن هل يجوز التعميم على قاعدة “كلن يعني كلن”؟

إن الواجب الأساسيّ لأيّ رجل دين، بعد تهذيب نفسه وصقلها بالإيمان الصادق واكتساب الفضائل الروحانية، والعلوم الشرعية ( علما أن الكثير منهم لديه إجازات جامعية وشهادات عليا في اختصاصات علمية بالإضافة إلى العلوم الدينية) هو نشر المحبة والتلاقي والتعاطف بين الناس، ونبذ الخلاف والتعصب والطائفية بكلّ أنواعها، ومحاربة الجهل والخرافة، والدعوة للوعي وتقبّل الآخر واحترامه.
أما على أرض الواقع، فالكل ينتظر من رجل الدين دورا اجتماعيا _ سياسيا معينا، فإذا كان موقفه يتوافق مع بعض الساسة يبدأ المحازبون والمناصرون بتبجيله وتكريمه ويحسبونه صاحب كلمة الحق والمثال الصحيح لرجل الدين. بينما يعده الخصم المثال السيئ  وصاحب مكاسب شخصية وتابعا لهذا السياسي او ذاك، ويتم نعته بأقبح النعوت، وبكل تأكيد يبدأ تدفق النظريات مثل: “فصل الدين عن الدولة” و”الدين أفيون الشعوب” ( لنا مقال سابق بعنوان “الدين أفيون الشعوب” بين مطرقة الإلحاد … وسَنْدان التبجيل” لمن يرغب بالاطلاع عليه)؛ وغيرها …. كل ذلك لأن موقفه لم يتناغم مع الموقف السياسي لهذه الجهة أو تلك. ورجل الدين ذاته إذا أثنى على هذا الخصم بمسألة ما يتناسى أنصار الحزب المعنيّ الموقف السابق وتشرق عملية المدح والثناء…. إنه الواقع المعاش.

ومن جهة ثانية، آثرَ عدد من رجال الدين عدم التدخل أو الكلام بالشأن العام والتزموا الحياد الحقيقيّ، بحيث تكون كلماتهم وتوجيهاتهم وما يكتبونه مقتصرا على النواحي والقضايا الدينية والتوعوية الحياتية، بعيدا عن سياسة الزواريب وتقلباتها. فهؤلاء أيضا لم يسلموا من سهام الانتقاد القاسي، واستحضار أقوال ومآثر القدماء والحكماء في ذمهم،  ” كالساكت عن الحق شيطان أخرس” و ” أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة”…. ومن اللافت أن هذا النوع ينال القسم الأكبر من الطعن به لأن الجميع يريده إلى صفّه وبجانبه، ويحاول استمالته  بشتى الوسائل.

وثمة رجال دين تصدوا للسياسة، وخاضوا غمارها سواء أبالانضمام إلى أحزاب سياسية، أم عبر مناصرتها بفاعلية؛ وقد يكون تأثيرهم الحزبي يفوق تأثير الملتزمين حزبيا أنفسهم. وهنا على المناصرين عدم الخلط بين الرمزية والمكانة الدينية لرجل الدين، وبين أفكاره وطروحاته السياسية، ولا يجوز البتة إضفاء هالة التقديس على عمله السياسي وكأنه معصوم عن الخطأ ومنزه عن الانتقاد وأرفع من المحاسبة. وبالمقابل يُمنع على خصومه القدح في شخصه أو دينه أو عقيدته لأن هذا  يندرج تحت قانون القدح والذم وإثارة النعرات الطائفية. أما نقد موقفه ورأيه فهو من صلب النظام الديمقراطي وحرية الرأي والتعبير، وعلى أتباعه تقبّل ذلك برحابة صدر بعيدا عن الدفاع الأعمى والمستميت.

إذا، مهما فعل رجل الدين فسيلاقي من يقصف جبهته، إذا تدخل في الشأن العام وأبدى رأيه أم إذا إلتزم الحياد.
وهناك فئة لديها حساسية من كل شيء يمت بصلة إلى الدين، ولا توفر أي فرصة لنعت الدين والمتدينين بأقسى الصفات. مع العلم أن هؤلاء يتغنون بالإنسانية والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، إلا أن ذلك لا ينطبق في شرعهم على الدين الذي يحاربونه وكأنه عدوهم الأول.

وإنطلاقا مما تقدم، أقول لنفسي و لأخواني رجال الدين كافة، فلنفعل ما يمليه علينا إيماننا وضميرنا وإنسانيتنا، وليكن صوتنا إذا تكلمنا مدويا بالوحدة والتعاون والتآلف، وصلواتنا إذا صمتنا مفعمة بالوطنية والرقي واللطافة، وأي موقف متعلق بالشأن العام نتخذه، فليكن مبنيًّا على المصلحة العامة والخير العام، ولا تغرنّنا  السلطة والجاه والنفوذ فكل ذلك إلى زوال، وحذار من المتجارة باسم الدين والرحمن، وتعبئة الناس بما يخالف الأصول والقواعد الدينيّة الصحيحة. أما العلاقة الراقية والقائمة على الاحترام المتبادل بين بعض رجال الدين وأي مسؤول نافذ، والبعيدة عن المنافع الذاتية، والهادفة لمساعدة المجتمع، فهي مرغوبة وتعود بالفائدة الخيّرة والطيبة على الجميع.
وكلمة الشكر لكل من يساعد الناس ويقف إلى جانبهم  بغص النظر عن النوايا – حيث ليس علينا تيقن بواطن الأمور –  لا تفسد الدين إنْ لم يكن فيها مبالغة في التعظيم والتبجيل.  وكذلك يمكن الإشارة إلى الخطأ الواضح الصادر عنه برقي. وأسُّ كل ذلك تقوى الله بصدق وإخلاص ومهما حاول العبد إخفاء نيته وسره، لا يستطيع إخفاء ذلك عن المطلع على سرائر النفوس ودقائق القلوب.


الكاتب : الشيخ الأستاذ كامل العريضي 

كاتب متخصص بالشؤون الدينية

مدير مدرسة الإشراق في المتن – لبنان

كامل العريضي

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button