مقال اليوم

من الفرقة الناجية إلى الإنسان الحر

لا اكراه في الدين، ولا في السياسة

د.عقيل سعيد محفوض

إذا كان منطق “الفرقة الناجية” في الدين هو، مع عوامل أخرى، محدداً أو منتجاً لاصطفافات ومواجهات وهويات قاتلة؛ فإن منطق “الفرقة الناجية” في السياسة هو، مع عوامل أخرى أيضاً، محدد أو منتج للاستبداد والدكتاتورية والسياسات القاتلة، ومنها الحروب والنزاعات والثورات الخ

مرجعيات

وإذا كان الكثير من القيم والسلوكيات في الدين ذا مرجعيات سياسية، أو محكوم بـ”لا شعور سياسي”، على ما يقول ريجيس دوبريه، الذي بدأ يسارياً ماركسياً وانتهى ليبرالياً؛ فإن الكثير من القيم والسلوكيات في السياسة له مرجعيات دينية، أو محكومة بـ”لا شعور ديني”، كما يقول محمد عابد الجابري، الذي بدأ عروبياً نقدياً، وانتهى إسلاموياً، وانتقائياً تلفيقياً، بل ومُزوِّرَاً، على ما يقول جورج طرابيشي!

والواقع أن الكثير من هذا وذاك، من القيم والسلوكيات، بدا محكوماً بمرجعيات انثروبولوجية وتاريخية عميقة، ولها تأثير كبير على الدين والسياسة، بل انها شَكَّلَتْهما مثلما أنهما شَكَّلَاها في صيرورة تاريخية معقدة.

الفرقة الناجية

ومثلما أن أصحاب منطق أو لا منطق “الفرقة الناجية”، لا يكتفون بسعادة أنهم الفائزون في الآخرة ونعيمها، والآخرون في الجحيم، فإنهم يحاولون الاستحواذ على كل شيء، وينهمكون في تعجيل الجحيم للآخرين، غير المشمولين بالصفة؛ فإن أصحاب منطق “الفرقة الناجية” في السياسة، يريدون، بدورهم، الاستحواذ على كل شيء، وكل الموارد المادية والمعنوية، ويجعلون حياة الآخرين جحيماً.

المشكلة أن التفكير ونظم القيم والفعل والتأثير لدى رجل الدين ورجل السياسة (والساحرات، وثمة من يضيف: البغايا!) متشابهة لحد الدهشة، على ما يرد في الدراسات الانثروبولوجية والتاريخية، والدراسات النفسية والاجتماعية.

هذا يجعل مهمة التعاطي مع تلك الفواعل أمراً محفوفاً بالتحديات والمخاطر! وليس في هذا الكلام -على ما فيه من تعميم قاس بعض الشيء- أي بُعد قدحي أو حتى حكم قيمة، إنما هو مجرد توصيف يرد في قطاعات معرفية عديدة مثل تلك التي ذكرناها أعلاه.

المشكلة أننا في هذا المشرق الجميل، غارقون أو رازحون تحت المنطقين معاً، أي الفرقة الناجية في الدين والسياسة، ويبدو أنهما “متمفصلان”، ويمثل أحدهما متكئاً للأخر، فيما تدفع شعوب المنطقة أثماناً كبيرة نتيجة لذلك، ومن دون أي أفق للخروج مما هي فيه، بل لعل فواعل الفكر والسياسة الدين والإعلام الخ يمثلون “جهازاً إيديولوجياً”، بتعبير لوي ألتوسير، وجهازاً معرفياً، بتعبير بيير بورديو، لهيمنة المنطقين، والواقع أنهما منطق واحد، يعيد إنتاج نفسه، مثلما أننا نعيد إنتاجه، بقصد أو من دون قصد، وندفع الغالي والنفيس من أجله!

الكوارث والحرائق

ان منطق أو لا منطق “الفرقة الناجية” ينتقل من الدين إلى السياسة. وأصحبت الأحزاب والجماعات والاصطفافات “فِرَقاً”، يسري عليها، بنظر أصحابها، منطق “الفرقة الناجية” في الدين، بأنها هي الوحيدة على صواب، والباقون على خطأ أو ضلالة؛ ومن ثم فإن “الجنة” و”النعيم” لها، والباقون ليسوا في الجحيم فحسب، وفق المنطق إياه، وإنما هم أنفسهم الجحيم، بتعبير مستعار من سارتر، أيضاً.

هذا يفسر حجم الكوارث والحرائق في مجتمعات عديدة حول العالم، وخاصة المجتمعات العربية، التي تعاني تأخراً أو “تخلفاً محضاً”، بتعبير خلدون النقيب، أو “تخلفاً مطلقاً”، بتعبير جان بودريار. وكيف يزداد “انحباس المعنى” في العالم العربي، على الرغم من الآمال والافاق التي حركها أو فتحها الحدث العربي في العام 2010-2011.

التفكيك والتجاوز

ثمة حاجة ماسَّة لـ”تفكيك” منطق “الفرقة الناجية”، و”تفكيك” الواقع الذي ينتجه أو يحافظ عليه نشطاً ولوداً … وقاتلاً. وان المطلوب هو تفكيكه أو تجاوزه، في المنظور الديني، وذلك بالنظر إلى المقاصد السامية للشرائع والأديان، بوصفها نظم قيم روحية وأخلاقية، يمثل التعدد والاختلاق بداهة مؤسسة لها، ومؤسسة للخلق والتكوين، إن أمكن التعبير بلغتها هي.

وثمة في بعض التراث الديني، مرويات عن حديث “الفرقة الناجية”، لا تحصر الفرقة الناجية بواحدة، فيما ترمي الأخريات الـ(72 أو 73) فرقة في النار، بل تقول إن الفرق كلها في الجنة إلا واحدة. وهذا ليس انتصاراً لرواية على أخرى، إذ لا يفترض بالدين أن يكون منظومة تكفير وقتل، وإنما منظومة إيمان وعقل مفتوح على التعدد والتغير  والاختيار الحر.

يتطلب الأمر “أخذ” الفقه الذي كان نتاج لحظة الانفتاح والتقدم والازدهار، لا الفقه الذي هو نتاج لحظة الانغلاق والتأخر والتخلف. وينبغي التنبه إلى أن المقصود بـ”أخذ”، ليس مجرد اتباع خلف لسلف، أو لاحق لسابق، وإنما: تحرير العقل من أسر العقائد والسرديات الدوغماتية المنغلقة، والثقة بالأجيال، وقدرتها على أن تقرأ وتفهم وتقدر، وتحرك المعاني والدلالات، وتتحرك في أفق الأبعاد الكونية والإنسانية أو الإنسية للحضارة المشرقية، العربية والفارسية والهندية والأفريقية وغيرها، ومرجعياتها التاريخية والدينية والثقافية المختلفة. 

مساران فقهيان

ان في التاريخ المشرقي مساران فقهيان رئيسان على الأقل:

الأول

يتحرك في أفق الإنسانية الواسع، ومنفتح على القراءة والفهم والتفسير والتحليل والتعدد، وينظر في الإتاحة والإجازة قبلاً وأصلاً، وفي المنع والتحريم فَرْعَاً واستثناء، إن أمكن التعبير؛ وينظر للإنسان بوصفه قيمة بذاته، إذ “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى والعمل الصالح”، وفق كلام منسوب للنبي محمد. والتقوى والعمل الصالح هما قيمتان إنسيتان في المقام الأول، وشرطان لـ”المفاضلة” بين الناس، وتخصان التعامل والتفاعل مع الإنسان، بصرف النظر عن دينة أو عرقه أو لونه أو لغته الخ

ثمة كلام منسوب للإمام علي، يقول: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخُلُق”. والخُلُق هو قيمة إنسية فوق الأديان والأعراق واللغات، وفوق المذاهب والطوائف والمناطق والجماعات والفرق والأحزاب والشرائح والطبقات الخ مصداق ذلك كلام منسوب للنبي محمد يقول: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. وهذا باب فيه كلام كثير.

الثاني

يتخندق في قيم فسطاطية، الأنا الناجية-الاخر الهالك، والذي يعيش في “دوغما” الفرقة الناجية، والمنطق أو اللا منطق الداعي للقتال والقتل، وهذا المنظور يجعل الكراهية مطلباً وشرطاً للإيمان، فأن تكون مؤمناً يعني أو يتطلب ضرورة أن تكون كارهاً. وهذا ليس محض قيم دينية، بل هو قيم اجتماعية تعصبية وعصابية تتخذ من الدين أو تأويلات محددة له، مرجعية ومنطلقاً أو لبوساً. وهذا أيضاً باب فيه كلام كثير.

الخط المهيمن

لكن الخط الثاني هو المهمين منذ عدة قرون، ويعيد إنتاج نفسه بكل يسر، ويتفوق في جذب الناس وحشد تأييدهم، الذين أخذوا ينظرون نظرة معكوسة للتاريخ، نظرة ترى أن ما كان من أمر السلف هو الكمال، وانه لن يَصلُح أمر الأمة إلا بما صَلُح به أولها. ويعيد إنتاج السير والروايات بوصفها حقائق تاريخية، بل فوق تاريخية.

الخط الأول أخفق حتى الآن في تأكيد بداهات الخلق والتكوين، لمن يؤمن بهذه المقاربة، وبداهات الوجود البشري، وبالطبع بداهات التفكير، طالما أن الاختلاف والتعدد ونسبية المعرفة ونسبية الحقيقة تكاد تكون من أوليات ومسلمات الفكر والوعي البشري.

من الفرقة الناجية  إلى الأمة الناجية

المطلوب هو –وهذه مجرد قراءة أو تقدير- العمل على تحويل فكرة “الفرقة الناجية” من الدين والطائفة والجماعة والحزب والعصبة إلى المجتمع أو الأمة، فيكون “خط المعنى” و”ميزان التفكير والفعل”، هو الأمة أو الشعب والوطن، وليس الملة أو الطائفة أو الحزب أو العصبة الخ

لكن هذا، ليس هو الحل الناجز، ولو أنه مطلوب في بعض المراحل، وبالنسبة لأمم وشعوب متأخرة في مسار التحضر والتشكل دولاً مستقرة، ذلك أن فكرة أولوية الأمة، بالمعنى القومي، أدت إلى كوارث ومآسٍ كثيرة، بل ان التيارات العلمانية والإيديولوجيات والسرديات الوطنية والقومية وحتى الأممية (الاشتراكية والليبرالية) صنعت سياسات أدت إلى حروب وأزمات أسالت دماء كثيرة على مستوى العالم، وخاصة في القرن العشرين، فاقت ما أنتجته التيارات الدينية، خلال عدة قرون، على ما تقول كارين أرمسترونغ.

التمركز حول الإنسان

لا بأس من زحزحة التمركز أو التخندق في منطق الفرقة الناجية، من الدين والطائفة إلى الأمة أو القومس أو الهوية الوطنية، وحتى الأممية، إن أمكن التعبير، ولكن الأهم هو أن يكون ذلك انتقالياً ومؤقتاً، مع إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً على ما هو أهم، وما هو أصل في كل قصص وسرديات الخلق والتفكير والتكوين، السماوية والأرضية، وهو: الإنسان.

وهكذا، لا معنى للأديان والعقائد والإيديولوجيات إن لم تتمركز حول الإنسان، وتتحرك في أفق الإنسانية الواسع. إن الأصل في كل ما فكر فيه الإنسان أو تخيله أو تلقاه (من رسالات) أو أبدعه من فكر وقيم هو: الإنسان نفسه، وتعمير الأرض، بتعبير الفارابي، أو العمران، بتعبير ابن خلدون. الأول (الفارابي) ذهب بعيداً في حب المدنية والحكم العادل الفاضل، والثاني (ابن خلدون) ذهب بعيداً في واقعية اجتماعية وانثروبولوجية وسياسية قاسية. الأول يشكل مخيالنا السياسي وحتى اليوتوبي والخلاصي؛ والثاني يشكل إطاراً مرجعياً لسلوك فواعل الحكم والسياسية والاجتماع في عالمنا المشرقي.

لا إكراه في الدين … والسياسة!

تبدو عبارة “لا إكراه في الدين”، على أهميتها وجوهريتها في الخطاب الديني لمخلف الجماعات والمذاهب والطرق، كما لو أنها مقولة لم تحدد في الواقع قيماً أو ترسم سياسات أو نظم قيم فعلية، إلا بقدر هامشي في خط التاريخ والواقع في هذا المشرق، ولكنها مع ذلك، تمثل “روح الدين” و”شرطاً” للتشكل الحضاري والعمران البشري، في خطه الإنسي. وهذا مما يجب التمسك به، وإيلائه الاهتمام الأكبر.

لكن مبدأ أو شرط “لا إكراه في الدين”، من المفترض أن يعادله مبدأ أو شرط آخر هو: “لا إكراه في السياسة”. وإذا كان غرض الدين هو الأخلاق، فإن غرض السياسة هو “العمران”، بتعبير أرسطو، و”الحرية” بتعبير حنة أرندت، والسيرة طويلة.

لكن المبدأين حاضران على مستوى الخطاب أكثر منهما في الواقع، إذ يشهدان سرديات متشابهة في الخطاب (حيت يحضران بقوة)، والتاريخ والواقع (حيث يغيبان، إلا ما ندر)، وبين هذا وذاك، يشهد العالم الكثير من الصراعات والتدمير والقتل والهجرة والإقصاء والتمييز الخ

وفي الختام،

ان الأصل في التحضر هو أن يكون الإنسان هو مركز التفكير والتدبير، وهذا يقتضي “تفكيك” و”زحزحة” التمركز حول منطق “الفرقة الناجية”، وحتى “الأمة الناجية”، وذلك بما يجعل الإيمان بتعدد الآراء والأفكار والمعتقدات والتشكلات والخبرات والتطلعات البشرية، وحتى التعدد والتغير في الطبيعة والبيئة، بداهةً مؤسسةً للعالم وللوجود والعمران البشري، ومنه هذا المشرق الجميل، المثقل بتعالي وسمو السرديات والمقولات، وبانحدار الهمم وهبوط مؤشرات العيش، والمحكوم من قبل أكثر النظم والسياسات تسلطاً في العالم اليوم.   

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button