سامي كليب:
لم يكن من باب الصُدفة أن يتحدث الحبرُ الأعظم أمام السلك الدبلوماسي عن الخطر المُحدق بلبنان، وقوله إن إضعاف المكوّن المسيحي يُهدّد بالقضاء على التوازن الداخلي. ذلك أن هذا الوجود المسيحي الذي هو في أصل لُبنان يستمر بالتضاؤل عدداً ودوراً بينما الأطراف الفاعلة فيه تغرق بصراعاتها وتنافسها فتضيع بين المحاور، وتضيّعُ معها جزءاً مُهمّا من هذا الوطن.
لا شك أن حُلمَ كلّ وطني مؤمن بالانتماء الى الوطن والدولة العادلة فيه، هو بناء نظام مدني لا طائفي، بحيث تُصبح مكانةُ الفرد فيه مستندة الى كفاءته ودوره ومساهمته في بناء دولة حقيقية بقيت حتى اليوم مُجرّد وهماً، فكانت في أفضل أحوالِها نتاجَ مُحاصصةٍ بغيضة بين المذاهب، وفي أسوأها فريسة لفساد الداخل، وحروبه، ولأطماع الخارج، وغزواته.
حتى تحقيق ذاك الحُلم الذي ما زال يبدو بعيد المنال، تتوسّع دائرةُ القلق حول هذا الوجود المسيحي، وتكاد معظم الإحصاءات الدقيقة (في ظل غياب إحصاءات رسمية) تُشير الى أن عدد المسيحيين الباقين في لُبنان يقلّ عن عدد الشيعة وحدهم، او السنّة وحدهم.
والى النقص المُقلق في هذا العدد، وهو ما ينسحب أيضا على فلسطين والعراق وسوريا، يبدو الوضع السياسي المسيحي ضائعاً ومُقبِلاً على تفتّت إضافي، ذلك أن مفاهيم السيادة واستقلال القرار صارت بعيدة المنال، فقسمٌ من المسيحيين بقيادة القوّات اللبنانية يلتصقُ بالسياسة الخليجية الغربية، وقسم آخر بالسياسة الإيرانية عبر التحالف العضوي مع حزب الله لكن مع قناعات غربية لا شرقية حتى الآن، أما الصرح البطريركي الذي طرح فكرة ” الحياة الناشط” ( هل يوجد أصلا حيادٌ غير نشيط؟)، فلا يعرفُ سبيلا الى تطبيق الفكرة التي حوّلته أيضا الى طرفٍ حين بدت أنها موجّهة خصوصا ضد حزب الله وسلاحه، رغم انها لاقت ترحيباً عند قسم لا بأس به من اللبنانيين ومن مختلف الطوائف.
أما باقي الأطراف المسيحية، فتبرز بينها أصوات تحاول طرح مشاريع وطنية، لكنها تصطدم بأمرين أساسيين، أولهما قلةُ الشعبية، وثانيهُما عدم القدرة على تطبيق ما تريده، وعلى توسيع الأفق ليُصبحَ وطنياً جامعاً فيحمي المسيحيين ويساهم في بناء الوطن.
ثمة من يقول إن في الأمر تطوّراً طبيعيا في بلدٍ بُني أصلا على الطائفية، فبعد ان كان الدروز أسياداً على جبل لُبنان القديم، أخذ مكانَهم الموارنة، ثم حصلت تسوية تاريخية (سُميّت بالميثاقية) بين المسيحيين والسُنّة، ثم كاد السُنّة مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري يصبحون أصحاب الكلمة الفصل، والآن وصل التطور الطبيعي الى أن الطائفية الشيعية التي كانت تاريخيا محرومة ومهمّشة، أصبحت اليوم صاحبة الكلام الفصل سياسيا وأمنيا وربما لاحقا اقتصادياً.
لو أن هذا التبدل في المذاهب خدم الدولة وصان الوطن، لكان يُمكن القبول به والتكيّف معه، لا بل ربما كان قد لقي دعما شعبيا جيداً. لكن المصيبة أن لُبنان يتقهقر عاما بعد آخر، والدولة دُمّرت عاماً تلو عام، حتى تكاد تفقد كل مقوّماتها.
ما الحلّ اذاً؟
بانتظار الحلّ المثالي حين يتفق اللبنانيون على صيغة فُضلى للدولة المدنية العادلة والمؤمنة بتكافؤ الفرص، يحتاج المسيحيون اليوم إعادة النظر بأوضاعهم كي لا يضيع ما بقي منهم في محيطهم، وقد ثبت عبر التاريخ أن كل جنوح صوب التسلّح أو الحروب أساء لهم وفتّتهم وسط صفقات وصراعات إقليمية ودولية، وكل بناءٍ لمشروع وطني ساهم في نهضة المسيحيين ومن خلالهم نهضة الوطن.
لا بُد من المبادرة الى طرح مشروعٍ وطني، فيكون للمسيحيين صوتُ الاعتدال والوساطة، أولا لأن الوطن يفتقر لمشروع نهضوي وطني حقيقي في طريق بناء الدولة العادلة والمدنية وهم قادرون على تشكيل الساحة الفضلى والمساحة الأولى للنقاش المحلي، وثانياً لأن الاستمرار في مستنقع التنافس والتناحر في طريق الحصول على مقعد لرئاسة الجمهورية، جعل المكوّن المسيحي في هذا الوطن واقفاً مرةً ثانية أمام خطر مزيد من التفتت وربما الاقتتال.
ربما كانت البطريركية المارونية ستنجح أكثر لو فتحت في قاعاتها سلسلة من النقاشات الوطنية، ودعت مجموعات من النُخب اللُبنانية الحقيقية المنتمية الى كل الطوائف، وطرحت عناوين لنقاش عميق للإجابة على أهم الأسئلة حاليا: ما هي وظيفة لُبنان المُقبلة؟ وأين مصلحته في عالمٍ يعود الى الحرب الباردة وربما بشراسة أكبر من السابق، ووسط أطماع إقليمية ودولية قد تعود الى لُبنان بأقسى مما كانت؟
ولا شك أنها لو نجحت في إطلاق هكذا نقاش يُمهدُ لحوار وطني جامع، فإن الفاتيكان سيتلقّف الفكرة ويتبنّاها بعد ان وصل الى حافة اليأس هو الآخر بشأن المُستقبل اللُبناني، ويكملها بغية البحث في التأسيس للُبنان المقبل ذي الدولة الحقيقية والعدالة الاجتماعية.
لُبنان بلا مسيحييه يفقد الكثير من روحه وجوهره وسبب وجوده، والمسيحيون بلا مشروع وطني جامع يضيعون في بحر إسلامي ويتضاءلون ويهاجرون.
إن مسيحيي هذا الشرق كانوا في صدارة من عمل على اللغة والقواعد العربية، ومن أطلق أفكاراً استقلالية، ومن ساهم في مشاريع تحرّرية نهضوية وقومية على مستوى الوطن العربي، وهذا الوهج بالضبط هو ما يفتقره لُبنان والمنطقة في هذه اللحظات التاريخية المفصلية.