لا تبكِ، أنت رجل
ليندا أبو مجاهد
عبارةٌ تردّدت في أصداء الزّمن منذ بدء الخليقة، ومنذ أوّل دمعةٍ سقطت من عينَي طفلٍ صغير، ذنْبه أنّه ذكَر.
” الرّجال لا يبكون”،” الرّجال أقوياء شجعان”، مفاهيم قاسية تردّدها الأمّهات قبل الآباء على مسامع أطفالهن الذّكور ما إن يبدأون رحلة الفتوّة.
المرأة اّلتي تحلم برجلٍ حنونٍ وعطوفٍ، هي نفسها الّتي تقف خلفه في رحلة التحجّر العاطفيّ. أوليس وراء كلّ رجل عظيم امرأة؟
نعم، خلف الرّجل العظيم امرأة، لكنّ العظمة لا تعني أن نمنع الرّجل حقّه في ذرف دموع الرّحمة والرّأفة والشّوق والفقد؛ ولو أراد الله سبحانه الدّموع للنّساء فحسب، لكان خلقها في عيونهنّ فقط، دونها عيون الرّجال.
ما ذنب الرّجل أن نحرمه البوح عن أقدس اختلاجات قلبه، وأرقّ وجدانيّاته؟ بل ما ذنب المرأة أن نحرمها مشاركة الرّجل إيّاها ضعف الدّمعة وشفافيّة الرّوح؟
“الدّمعة مالحة كانت أم حلوةً هي بريق الرّوح في المآقي، وحين تُطفأ الرّوح تجفّ الدّموع.”
هذه الخاطرة أعلاه كنت قد كتبتها منذ سنوات، أمّا اليوم، فإنّني أتمنّى ألّا أرى دموع الرّجال، أتمنّى لو أنّني لم أكتب هذه الخاطرة إذ أتألّم حين أظنّ أنّ القدر جعلني أكتبها لأرى بعد حين بأمّ عيني رجالًا وشبّانًا وصبيةً يذرفون الدّموع.
يقف الرّجال اليوم في طوابير الذّلّ يبحثون عن رغيفٍ يتناقص وزنه شيئًا فشيئًا، وكأنّه يشارك الرّجل كرامته الّتي تعزّ عليه إذ يراها تتقهقر وتُهان بين أمثاله من الرّجال الّذين بات أكبر أحلامهم تأمين الرّغيف الخجول.
ثلاثة أرغفةٍ لا أكثر طلبها أحد الرّجال من بقالة الحيّ، وفي حيٍّ آخر اشترى أحدهم رأسَي بندورة، وآخر، وآخر، وآخرون يبيعون حياء الوجه مقابل لقمة عيش ناشفةٍ بلا أودٍ يُصمت صراخ الجوع في البطون الفارغة.
أيّة دمعةٍ ستخجل من الهطول فوق وجنتَي أبٍ ترك ابنه مريضًا بلا دواء، وراح يبحث عمّن يهبه ثمن الشّفاء؟
أيّة دمعةٍ سيخبّئها شابٌّ بات قاب قوسين أو أدنى من التّخرج في الجامعة ليجد نفسه يتسوّل أمام مكاتب إدارتها الموصدة في وجه تحقيق حلمه ونيل ثمرة سعيه، تلك الأبواب الّتي تشهد أنّ أساتذة ذلك الطالب صاروا أكثر ذلًّا من متسوّلي الطّرقات؟
الطّالب يبكي، والمعلّم، والطّفل، والأب، والجدّ، كلّهم يبكون في وطنٍ أفقد الإنسان كرامته مع قيمة راتبه، ومع حقّه في العيش الكريم.
أيّها الرّجل الباكي فوق أثمال الماضي الرّغيد، أسألك بربّك، وبكرامتك: مَن أبكاك؟ من جعل الدّمع يعصى على الكتمان؟
دموع الرّجال هذه ليست الدّموع الّتي تطلبها منهم النّساء.
المرأة تريد رجلًا حرًّا مستقلًّا قادرًا على تعزيزها، وحمايتها وصون بيته وأولاده.
والشّابّة تريد شابًّا يحمل شهادةً علميّةً تخوّله أن يؤسّس بيتًا وحياةً كريمةً.
والأمّ تريد لطفلها المستقبل الآمن والهناء.
يا قوم، الماء والغذاء والدّواء والتّعليم ليست مطالب تُطلب، بل هي حقوق تُكتسب.
أيّها الرّجال الأباة، ليس مَن أعطاكم الرّغيف هو الحاكم المتحكّم برقاب العباد.
أيّها الرّجل أراك تبكي مقهورًا، لكنّني أتذكّر أبا عبد الله الصّغير حين سلّم مفاتيح غرناطة الأندلسيّة، حيث قالت له أمّه: ” إبك كالنّساء مُلكًا ضائعًا لم تحافظ عليه كالرّجال”.
أراني الآن أنادي بملء فمي: لا تبك، أنت رجل.
نعم لا تبكِ حقوقك، بل اسعَ لنيلها.
لا تبك طفلك المريض، بل عالجه بكلمة رفضٍ في ظلّ تهميش الوجود.
لا تبك خلف المقود في محطّات النّار، بل أشعل النّار في تخاذلك وانصياعك الأعمى لمن ساهم في حرقة الدّموع.
دموع الرّجال جميلةٌ حين تذرفها الرّوح حنوًّا وعطفًا وحبًّا، لكنّها مرفوضةٌ حين يبعثها الذّلّ والفقر والجوع.
فهلّا مسحتم دموعكم أيّها الرّجال الرّجال!