
سامي كليب:
غرّد السفير السعودي في لبنان وليد البخاري من الرياض اليوم قائلا على صفحته تويتر:” تكمن الأزمة تحديدا في أن القديم يُختصر والجديد لم يولد بعد.. وفي ظلّ هذا الفراغ يظهّر قدرٌ هائل من الأعراض المَرَضية” وهو استند في ذلك الى الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي صاحب النظيرة الشهيرة ” الكتلة التاريخية”. لم يذكر البخاري لُبنان، لكن على الارجح هو المقصود.
تَكْمُنُ الأزمةُ تحديدًا في أنَّ القديمَ يُحْتَضَرُ وَالجديدَ لم يُولدْ بعد ..
وَفي ظلِّ هذا الفراغِ يظْهَرُ قَدرٌ هائلٌ من الأعْراضِ المَرَضِيَّة..!المُفكر الإيطالي #أنطونيو_غرامشي
— Waleed A. Bukhari (@bukhariwaleeed) November 3, 2021
فقبل البُخاري، طالب وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان الحكومة او ” المؤسسة اللبنانية” بتحرير لبنان من ” الهيكل السياسي الحالي الذي يعزّز هيمنة حزب الله”. وغالبا ما يقول المسؤولون السعوديون إن لبنان بشكله الحالي صار خاضعا للحزب ولا بد من تغيير ما هو قائم.
واضح أن الرياض التي تُعبّر عن غضبها بين الحين والآخر من مسؤول أو تصرّف لُبناني، باتت كما عدد لا بأس به من الدول وأيضا من اللبنانيين على قناعة بأن النظام السياسي الحالي ما عاد ينفع، لكن بعض أسباب ذلك يختلف بين السعودية وهذه الدول، بحيث أن الرياض تعتبر ان انتهاء النظام الحالي يجبب ان يؤدي الى نهاية او إضعاف حزب الله كشرطٍ لقيام دولة أخرى تحظى بدعم من عمقها العربي، بينما بعض حلفاء السعودية يرون ان النظام السياسي والاقتصادي الحالي برمّته ما عاد ينفع، لكن بعضهم لا يستهدف الحزب المتصارع مع الرياض على جبهات عديدة وفي مقدمها حاليا اليمن وانما بنية النظام كلها.
فماهي مثلا نظرة فرنسا لأزمة لبنان ونظامه؟
في الجوهر ترى باريس أن لبنان لا يعاني من أزمة واحدة، وانما من أزمات قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى ومتعاقبة ومتداخلة، لكنها جميعها تستند الى أزمتي ” النموذج الاقتصادي-المالي” و” النموذج السياسي”، خصوصا ان ” الثراء الوهمي” الذي كانت الجماعة السياسية-والاقتصادية، توحي به سُرعان ما أظهر هشاشةً عضويةً عميقة فانهار على رؤوس اللبنانيين جميعا. لذلك فالمطلوب للمستقبل وفق ما يشرح مصدر دبلوماسي فرنسي :” إعادة بناء نموذج اقتصادي ومالي وتحديد أفق النموذج السياسي الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار وحدة واستقرار لبنان ولكن أيضا تنوّعه ( الطائفي)”.
هذه الخلفية الحقيقية التي تقود ” الرؤيا الفرنسية” لمستقبل لبنان ولدور باريس فيه وعبره، وحرصها على بقائه منارة فرانكوفونية، هي التي جعلت فرنسا تكاد تكون الدولة الوحيدة الثابتة في تكثيف مبادراتها واتصالاتها للحفاظ على مؤسسات الدولة وتطويرها ومنع الانهيار وتخطّي هذه المؤسسات صوب مشاريع متنوّعة تهم الناس مُباشرة، ولذلك فهي تنوّع بين ما هو طاريء :” مساعدات طبية وتربوية وصحية وللقوى الأمنية المختلفة” وما ينبغي أن يكون متوسط وبعيد الأمد لجهة اعادة بناء الدولة . وهذا ما يُفسر الاصرار على دفع الجماعة السياسية اللبنانية صوب الاصلاحات الضرورية، وتشجيع المجتمع المدني على الشروع فعليا في مسارات انقاذ وإصلاح بغية التأسيس لنظام اقتصادي-مالي-سياسي منشود.
فرنسا السعودية: معلومات مفيدة
حين زارت سفيرتا فرنسا والولايات المتحدة الأميركية آن غريّو ودورثي شيا المملكة العربية السعودية مؤخراً، وفوجئتا بأن الرياض لم تُقفل الباب أمام هذه المساعي بشأن لبنان بل فتحت الأبواب لنقاشات مستفيضة، جرى الحديث وفق ما يشرح المصدر الدبلوماسي الفرنسي نفسه حول الأمور التالية:
- لم يُطلب من السعودية تمويلاً خلافا لعادة من يذهب الى الرياض، وانما تعاونٌ انطلاقا من الدور المحوري والاقليمي للسعودية في المنطقة وتأثيرها على الوضع اللبناني
- اقناع الرياض بالعمل على دعم مشاريع في لبنان وليس أشخاصا ( منها مثلا مشاريع سنّية).
- القول لهم بأن ليس كل الشيعة في لبنان مع حزب الله، بل هناك من هم ليسوا معهم داخل الطائفة نفسها. وأن العقوبات ربما تضرّ الآخرين بينما الحزب لم يصب بأذى كبير. وطُرح السؤال التالي :” لماذا يذهب الناس صوب حزب الله، اليس جزء كبير من الجواب يكمن في غياب المؤسسات التي ينبغي علينا إعادة بنائها عبر أسس جديدة؟”
- جرى عرضٌ لحقيقة الوضع اللبناني المتعلق بكل الجغرافيا والمناطق اللبنانية والتي ربما يغيب بعضها عن الجانب السعودي. وهنا استفاضت السفيرة الفرنسية خصوصا في الشرح ذلك انها ومنذ وصلت الى بيروت تقوم بجولات مكّوكية وتتواصل مع كل الاطراف بما فيها “حزب الله” لكن مع استخدام حديث “صريح وبلا محاباة مع الجميع”. وهو ما جعلها محط اهتمام وتقدير من قبل معظم المسؤولين.
- حين قال السعوديون إنه لا يمكن التعامل مع بلد فاسد، وأنهم دفعوا الكثير دون نتيجة، قالت لهم السفيرة الفرنسية :” نحن أيضا ندفع في لبنان، فلماذا لا نجمع جهودنا لدعم مشاريع، ذلك ان القضية اللبنانية الكُبرى ليست مستحيلة كما يعتقد كثيرون”.
- جرى التأكيد على ان الجهود الدولية تهدف الى إبقاء لبنان مستقرا ومستقلا وإعادة بناء المؤسسات فيه ومنع انهياره.
ما المُنتظر؟
كانت زيارة شيا وغريّو الى الرياض جزءا من اتصالات رفيعة سبقت وأعقبت تلك المحادثات التي أجراها كبار المسؤولين الفرنسيين مع قادة المنطقة، يقينا منهم بأن لباريس دورا مفصليا في الواقع والمستقبل اللبناني، خصوصا وسط شعور كثير من الأوروبيين والعرب بأن لبنان ما عاد مهما على الرزنامة الأميركية الا ما يتعلّق منه بأمن إسرائيل، وهو كما معظم المنطقة قد أصبح على الأرجح خارج الاهتمامات الفعلية الأميركية.
لا أحد يغالي أو يبالغ في كيفية الخروج من الازمات اللبنانية المتعاقبة خصوصا ان الجماعة السياسية اللبنانية لديها قدرة عجيبة على اثارة المشاكل ثم إدارتها وإنتاج مشاكل جديدة، لكن ثمة خطوات باتت واضحة ويتفق بشأنها الجميع حتى لو اختلفت الأهداف:
- الانتخابات المقبلة ستكون، وكما قال الرئيس ايمانويل ماكرون لرئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، مقياسا حقيقيا للانخراط الجدي في مشروع الإصلاحات، وان المجتمع الدولي وليس فقط اللبنانيون سيراقبون هذا الاستحقاق والتحضير له كمقياس على جدية الحكومة والجماعة السياسية الحالية.
- يجري التأكيد دائما من خلال الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة على ” رسالة الحزم” الدولية حيال الإصلاحات والانتخابات.
- تتكثف المساعدات الدولية للمنظمات غير الحكومية وخصوصا منها تلك التي تعمل على شرح أهمية وكيفية هذه الانتخابات وحقوق وواجبات الناس حيالها، وتستهدف استقطاب الشباب والمهمشين والمتردّدين، كي ينخرطوا جميعا في الانتخابات ويبدأوا مشاريع اعادة بناء الدولة والنظام على أسس جديدة.
- هذه الخطوات الدولية تتخطى الحكومات والأزمات المتعاقبة في لبنان، ذلك ان ثمة قناعة دولية بأن هناك أزمات عابرة تعرف الجماعة السياسية كيف تستنبط حلولا غريبة لها من داخل او خارج النظام الدستوري، بينما المطلوب هو مرافقة ولادة لبنان جديد على قاعدتي التأسيس لنماذج” اقتصادية ومالية وسياسية” تساهم في بناء دولة حقيقية عادلة وخالية من الفساد وتستجيب لتطلعات الناس.
- لا يمكن الحديث عن أسباب داخلية فقط أو خارجية فقط، وانما هناك تشابك فعلي في الأسباب والاهداف ومصالح الاطراف حيال الأزمات اللبنانية المتتالية، وذللك فان الحلول تفترض مقاربة مغايرة في الداخل واتصالات اقليمية ودولية مع كل الاطراف بغية اخراج لبنان من جحيمه الحالي.
خلاصة القول
إن القناعات الفرنسية والسعودية والدولية تتقاطع مع قناعات لبنانية داخلية خصوصا من قبل المجتمع المدني بضرورة تغيير النظام القائم، لكن السؤال الذي لا يستطيع أحد حتى الآن الاجابة عليه، كيف سيكون شكل النظام المقبل؟، وكيف سيتوزّع على الطوائف؟. فبعد الاجتياح الاميركي-البريطاني للعراق مثلا، تولّى الشيعة أبرز مقاليد الدولة مع مشاركة كردية فاعلة، بينما أُقصي حزب البعث وحُل الجيش العراقي فتم اضعاف السُنّة بشكل كبير. فما الذي يمنع أميركا الراغبة بالانسحاب من المنطقة والمتمسكة بأمن إسرائيل، بان تعزز دور الشيعة في النظام اللبناني المقبل ثمنا لتسهيل ترسيم الحدود واستخراج الثروات النفطية وضبط الجدار الأمني الممتد من الجولان الى الجنوب وتخفيف سلاح حزب الله، اذا ما تقدمت مفاوضاتها مع ايران وتمت اعادة فتح مسار تفاوضي سوري اسرائيلي بدعم روسي؟ ماذا لو كان صحيحا مثلا، تحويل انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان ( الذي سيبقى مسيحيا) الى الاقتراع الشعبي العام، واستحداث منصب نائب رئيس شيعي انطلاقا من أن التوازن الديمغرافي في لبنان اختل كثيرا بين المسلمين والمسيحيين ( يقال 70 مقابل 30 بالمئة؟ ). هل شكل النظام اللبناني المقبل هو الذي يقلق البطريركية المارونية فترفع الصوت عاليا؟ وهل السعودية التي ترى الحوثيين يتقدمون صوب ” الاستيلاء” على النظام اليمني تقلق أيضا من ” استيلاء ” حزب الله على النظام اللبناني الذي كان لها فيه رغم كل عقباته دورٌ جيد عبر السُنّة؟
الواقع أن السعودية التي تتحدث عن وجوب تغيير النظام اللبناني، تستند الى تجربتها الداخلية، وتقول مصادرها إنه كان من المستحيل قبل سنوات أن يفكّر أحد بأن ملكا أو اميرا سعودياً سيُحدث سلسلة الاصلاحات الدينية والتربوية والفنية والاقتصادية وحيال المرأة بالسرعة التي جرت فيها منذ وصول الامير محمد بن سلمان الى منصب ولاية العرش، لكن هذا حصل وجذب معظم الشباب السعودي الى هذا المشروع الاصلاحي. وإنه كان من المستحيل قبل أشهر التفكير بأن الحشد الشعبي في العراق سيُصاب بانتكاسة انتخابية، لكن هذا حصل في الانتخابات الأخيرة، فلماذا لا يجري الأمر نفسه في لبنان؟
كل ما تقدم، مجرّد اسئلة وهواجس، وربما من السابق لأوانه طرحها، لكن من يستمع الى المسؤولين الغربيين، يُدرك تماما كما قال لنا مصدر دبلوماسي فرنسي ان الوقت حان لاعادة بناء نظام اقتصادي-مالي وعلى الارجح سياسي، لوقف نظام الوهم الذي كان قائما حتى الآن على الاقل اقتصاديا.
———————————————————————————————————————————-
معلومتان اضافيتان من مصدر دبلوماسي فرنسي:
- الرئيس ميقاتي لم يقل لباريس انه ينوي الاستقالة كي تطلب منه البقاء.
- باريس سلّمت كل ما طلبه القضاء اللبناني بعد تفجير المرفأ ومنه صور الاقمار الصناعية