آخر خبرمقال اليوم

أبعدوا السياسة عن كرة القدم ليستمرَّ سحرُها

أيمن مرابط – الرباط 

منذ العام 2010 والمنتخبات التي تفوز بكأس العالم تُقصى من الدور الأول حين تدخل البطولة بثوب البطل، حدث هذا الأمر عام 2002 أيضا مع المنتخب الفرنسي بقيادة النجم زين الدين زيدان حين استصغر اللاعبون خصومهم في المجموعة وهم الفائزون بكأس العالم 98 ببلدهم ثم كأس أمم أوروبا عام 2000، لينتهي بهم المطاف بخسارتين مذلتين أمام السنيغال والدنمارك، ثم مع إيطاليا وإسبانيا وألمانيا في ثلاث نسخ متتالية، كأنها لعنة كأس العالم، لكنها ليست كذلك بالفعل.

معروف أن كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية في كل العالم، فالمباريات الكبيرة تحقق أرقام مشاهدات تبلغ 2 مليار ونصف مشاهدة عبر العالم، حسب إحصائيات عن موقع “الفيفا” أولها الكلاسيكو الإسباني بين القطبين ريال مدريد وبرشلونة “خلال تواجد ميسي ورونالدو”، أما بطولة كأس العالم 2018 فقد وصلت الى 3.5 مليار مشاهدة والبطولات القارية الكبرى لا تقل عن المليار مشاهدة حسب أهميتها وحجم التنافسية فيها، وتحتل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المرتبة الأولى عالميا عند كل سنة، حيث أكثر  من 100 مليون عربي تقريبا يتابعون المباريات الكبيرة من أصل 300 مليون عربي، رقم لا تحققه القارة الأوروبية كلها، ولا الأمريكية، وهو نفسه في الصين أو الهند  من أصل مليار ونصف نسمة.

يمكن القول إن جمهور كرة القدم يشكل “جماعة الضغط” على الفرق والمنتخبات التي يشجعها، هو يؤيدها بكل إرادة وثقة “عمياء” في أدائها وبعاطفة ومشاعر عميقة، عكس المجال السياسي الذي غالبا ما تكون فيه جماعات الضغط  على الحكومات من المعارضة،  يكفي منظر الملاعب الممتلئة عن آخرها بمئة ألف متفرج كي يزرع الخوف والرهبة بل يرعب أي شخص عادي لكن ليس على اللاعب المحترف أن يرتعب، ناهيك عن ضغط الصحافة وتشجيع  الجماهير المتعطشة للفوز الذي يكون مبالغا فيه أحيانا، فإما أن يشكل دافعا للاعبين لتحقيق الهدف المنشود أو يشتت تفكيرهم وتكون نتائجه عكسية عليهم، وهذا الأمر حدث في مناسبات عديدة.

خلال مونديال 1986 بالمكسيك، وبالضبط في دور ربع النهائي، تقابلت الأرجنتين مع إنكلترا، المباراة وصفها جمهور الانجليز آنذاك بأنها استكمال لحرب “الفوكلاند” بين البلدين الواقعة عام 82 على جزر متنازع عليها، واعتبروا أن فريق دولة ضعيفة آنذاك رغم قوته كرويا لن يحقق الفوز عليهم، كان تشجيع الصحافة البريطانية لمنتخب الانجليز عاليا واختلقوا “حربا ثانية”، فكانت النتيجة أن ارتكب الساحر الراحل مارادونا “مجزرة كروية” في حقهم لا تزال عالقة بهدفين أسطوريين في ذاكرة العالم بأكمله، واستمر تألق الأرجنتين “الفقيرة” آنذاك وفاز لاعبوها بكأس العالم في النهائي.

في كرة القدم يكون الضغط على اللاعبين مع المنتخب أقوى بكثير مما هو عليه مع الأندية، فالمنتخبات باتت تمثل هوية وتاريخ وقومية البلد بل وتعكس مدى نجاح سياساته العمومية في مجال الرياضة والاقتصاد الرياضي حيث اللعبة أصبحت متداخلة مع كل المجالات الأخرى والعلوم أيضا.

غالبا ما تشكل مباريات بين المنتخبات المجاورة لبعضها التي تُسمى ب “الديربي” أو “الكلاسيكو” مثل الديربيات المغاربية والعربية، خصوصية مختلفة وحساسية قصوى بين الجماهير يصل صداها إلى اللاعبين، والفوز فيها كأنه فوز ببطولة معينة، أما الصحافة والإعلام الرياضي فيجداها مادة دسمة لرفع الحماس والإثارة وحشد المتابعات القياسية وهذا اختصاص عربي خالص.

اعتاد الجمهور العربي سماع مصطلحات مرتبطة بالحرب  تُوصف بها المباراة من قبيل “قمة النار” أو “مباراة قاتلة” أو “مباراة الصواريخ الجوية والقنابل” وغيرها، كلها كلمات يتعمد المعلقون العرب قولها بأصوات مرتفعة لرفع الإثارة و”الأدرينالين” قبل المباراة وأثناءها، بل هناك من يربط المباراة بالسياسة وبدلا من  أن يُقارن مستوى المنتخبات كرويا يتجه نحو المقارنات السياسية والاجتماعية فتذهب الروح الرياضية بين الجماهير أدراج الرياح.

قبل شهر، شكلت مباراة المغرب ضد الجزائر في بطولة كأس العرب بقطر، منعطفا حاسما بالبطولة نظرا لحساسية العلاقات السياسية بين البلدين وبعض الفئات من الشعبين، اعتبرتها ثلة من الجماهير أنها “حرب كروية” على غرار التوتر والخلاف المفتعلين ( لاسباب كثيرة قد نعود اليها لاحق)، بينما آخرون رأوها فرصة لإثبات متانة الأخوة والمحبة بين الشعبين وبعث أمل لإنهاء الخلافات الثنائية ورفع شعار “خاوة خاوة” الشهير، لكن ظلال السياسة العميقة لم تخفِ تأثيرها على طاقم المنتخبين ولا على أحد.

على مستوى المشاهدات، كسرت المباراة رقما قياسيا على منصة اليوتيوب العالمية بأكثر من مليون ونصف مليون مُشاهد لبث مباشر كامل، والأمر نفسه حصل على مستوى الفضائيات الناقلة، أما داخل ميدان الملعب فقد استطاع اللاعبون رسم بعض ملامح الروح الرياضية والأخوة وتخفيف حجم الضغط، لكن هذا الأخير نفسه كان ظاهرا حين نرى أن عدد التمريرات الخاطئة أثناء المباراة كان أعلى من الصحيحة وعدد كبير من الأخطاء المرتكبة كان سببها التوتر المُضاعف والتهور أحيانا، وتفسير هذا الأمر هو عدم تحرر لاعبي المنتخبين من ضغوط الخارج وتخوفهم من الهزيمة، وفي الأخير مال الفوز لصالح الجزائر بضربات الترجيح التي دبروها بطريقة أفضل من المغاربة، فقامت الدنيا ولم تقعد بالمدن الجزائرية وبمواقع التواصل الاجتماعي، وازداد ذلك بعد فوزهم بكأس العرب ضد تونس في النهائي.

قد يستغرب الجمهور الكروي كيف للجزائر التي قدمت مباريات بطولية بكأس العرب والمرشحة لكأس افريقيا الحالي بالكاميرون كونها البطل السابق أن تخرج منه في الدور الأول، ثمة أسباب كثيرة ومتنوعة أبرزها الضغوط الجماهيرية والإعلامية التي وصلت في الداخل الجزائري إلى تكليف المنتخب بمهمات أخرى غير الفوز بالمباريات، “إعادة المجد لشهداء الثورة” و “تحرير الأرض” وأشياء أخرى وإن كانت مجازية فحمولتها ثقيلة جدا على نفسية اللاعبين المحترفين، وبدا واضحا سوء تعامل المدرب والطاقم المرافق له مع هذه الضغوط وغياب تام للحضور الذهني وتشتت انتباه اللاعبين، ومثلما حدث مع المنتخبات الفائزة بكأس العالم حدث مع الجزائر.

تبقى كرة القدم رغم كل التأثيرات والتداخلات السياسية والاقتصادية والتاريخية لعبة رياضية وإنسانية في عمقها وهدفها الأساسي هو التسلية وتحقيق المتعة للجماهير والشعوب المحبة للفرح والفوز، وأي مهمات أخرى غير اللعب الجيد والنظيف والتحلي بالروح الرياضية، ستُشكل حتما عامل ضغط هائل تكون نتائجه معكوسة عليهم وعلى جماهيرهم، وفي المجتمعات العربية الشغوفة بكرة القدم يبقى الأمل دوما في إبداء هذا الشغف في ميادين الثقافة والعلم والمعرفة والتنمية التي لا شك لها دور حاسم جدا على الدول الرائدة في كرة القدم وفي كل الميادين.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button