سامي كليب
مرّة واحدة فقط التقيت بالرئيس سعد الحريري. حصل ذلك حين صدر كتابي ” الرحّالة”. كان كعادته، ودوداً، وقريبا، ومبتسماً وكان منزله يغلي بالمستشارين والموظفين وطالبي الخدمات. كان معنا في الجلسة مستشاره هاني حمود وهو زميل وصديقٌ قديم مذ كنّا صحافيين في باريس نلتقي في المؤتمرات أو في مكاتب صحيفة ” الحياة” التي خسرها القرّاء العرب وما كان ينبغي خسارتها. ولا شك أن هاني كان من ألمع الإعلاميين الاقتصاديين العرب في العاصمة الفرنسية. وكانت معنا في الجلسة أيضا الزميلة كارولين بعيني التي عملت لسنوات طويلة في لبنان ونجحت وكانت قريبة من بيت الوسط قبل أن “تهاجر” صوب أميركا وتعيش هناك لأسباب لا داعي لشرحها.
تزامن اللقاء مع إحدى الأزمات السياسية الكُبرى في لبنان وبعد فترة على استقالة الحريري من قلب الرياض، لأسباب لم ولن يفصح عنها رغم قساوتها. شرح في اللقاء أسباباً كثيرة للتأزم في لُبنان، فسألتُه بصراحة الصحافي:” لماذا لا تقول كل شيء في مؤتمر صحافي، فالناس ضائعة وقلقة وتحتاج الصراحة، ربما من الأفضل عدم إيهام الناس بأن الأمور بخير؟”، قال :” لأني ببساطة سأجلس بعد فترة مع الذين اتحدث عنهم في حكومة واحدة وسنعمل سوياً، ولأني لا أريد توسيع شقة الخلافات والفتن ولا أريد حرباً أهلية، فلبنان لا يستوى الاّ بالتفاهمات”.
كانت السنوات الماضية المضطربة لحكم الحريري على وقع الحرب السورية، ثم ما حصل معه في السعودية، قد علّموه أمرين أساسيين: أولهما أن لا يثق بأقرب الناس اليه ويفكّر ويتصرف ويلتقي بمن يريد لوحده، وثانيهما، أن ما وصلت اليه الحرب السورية وما حصل من اليمن الى ليبيا وقبلهما الصومال والعراق، يُنذر بما يُمكن أن يحصل في لبنان من حروب داخلية حين تتطرّف المواقف، فمشاكل المنطقة وتعقيداتها أكبر بكثير من أن يحتملها لُبنان، ولذلك صار يثق بحسّه الشخصي أكثر من نصائح المستشارين والمقرّبين، وثمة من يقول إن تصرّفَ خصومِه حياله وحيال عائلته حين حصلت مشكلته في السعودية، جعله أيضا حاملاً جميلَ ما فعلوا.
بعد أن خرجتُ من عنده، تذكّرت لقاءً لي مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري في باريس. كنتُ آنذاك خارجا من نشرة صباحية أقدّمها عبر أثير إذاعة مونت كارلو. ما ان أصبحتُ خارج المبنى الكبير والجميل للإذاعة على الضفة اليسرى لنهر السين، حتى وجدت رقما غريبا يرنّ على شاشة هاتفي. أجبتُ فكان على الطرف الآخر، العامل في منزل الرئيس الحريري في باريس (وهو بالمناسبة منزل المهندس غوستاف إيفل باني البرج الشهير، وكان الرئيس الراحل جاك شيراك هو الذي نصح الحريري بشرائه). قال لي:” الرئيس الحريري يريد التحدث إليك”، رحّبتُ وعجِبتُ، فلم يكن بيننا اتصالات هاتفية، وغالبا ما كنتُ أحاول الابتعاد كي لا يُقال إنه اشتراني كما اشترى عشرات الصحافيين والمثقفين والكتّاب في لبنان. فهؤلاء كانوا أصلاً معروضين للبيع لكل من يدفع، وكان رأي رفيق الحريري بهم وفق ما قاله لي في خلال اللقاء:” افضِّل ان اشتريهم أنا من أن أتركهم يُباعون للخارج ويصبحون ضد الوطن”.
كان لقاؤنا أيضا في فترة اعتكاف الرئيس الشهيد. لم يكن مُرتاحا، وكان طيلة اللقاء يحاول أن يشرح ماذا فعل لأجل لُبنان. قلتُ له: يا دولة الرئيس انت شغلت منصب رئاسة الحكومة مرّتين، والله حباك بثروة مالية هائلة، فلماذا لا ترتاح وتعيش حياتك هانئا، فلم يعد هناك سوى منصب رئيس الجمهورية وهو للموارنة؟” قال جازما:” لأني يا أخي سامي، أريد أن افعل شيئا للبنان وأن نعيده دولة محترمة وناهضة وحديثة…”، قلت ولكنك مُكبّل والقرارات أكبر منك:” هل تستطيع يا دولة الرئيس أن تعيّن وزيرا بلا موافقة رستم غزالة (قائد القوات السورية آنذاك في لبنان والحاكم الفعلي للُبنان)؟” قال :” اناقش واحاول الرفض”، قالت لكن لو أصرّوا فلن تستطيع الرفض، قال ” أحاول”، ثم ضحك ولكن ليس كما يضحك المرتاحون عادة.
ربما هذه مأساة الحريرية السياسية في لبنان من الأب الى الابن، فالطموح كان كبيرا، لكن المُكبّلات كثيرة، وسّع رفيق الحريري هامش تحركه الى أقصى الحدود حتى كاد يُصبح الزعيم السُني الأبرز في المنطقة والأكثر علاقات عربية ودولية في تاريخ الشرق الأوسط محافظا على احتضان سعودي كبير، لكنه بقي عالقاً بين مقرّرين كبيرين هما الرياض ودمشق.
سعى سعد الحريري من جانبه، سعى للإفادة من إزاحة القبضة السورية عن لبنان، وهي القبضة التي أساءت الى سورية ولبنان معا عبر شبكة المصالح التي قامت بين ضباط ومسؤولين من البلدين منذ أيام الراحل غازي كنعان حتى رستم غزالة، وأثمرت فاسدين ومرتشين ومرتهنين. لكن سعد الحريري سُرعان ما وجد نفسه بين مطرقة إيران التي يكُبر دورها في لبنان والمنطقة، وسندان السعودية التي تُطالبه بمواجهة حزب الله وهو عاجزٌ عن ذلك.
لم يجد الحريري بعد ان أفلس ماليا، ولوحقت شركاته قضائيا حتى داخل السعودية نفسها، وبعد ان راح أهلُ البيت الذين أفادوا ماليا وسياسيا ومعنويا من رفيق الحريري ينقلبون على الابن تارة باسم الطموحات السياسية وتارة أخرى في سياق المزايدة عليه بحثا عن كسب ودٍ لم يأتِ، وبعد أن أدرك أن لا داعي للخوض في مواجهة خاسرة سلفا مع المحور الآخر ( خصوصا أنه ضمنيا غير مقتنع فعليا بالمواجهة)، لم يجد سوى بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر، فدخل من بوابة الاستثمارات الإماراتية ( وساعدته مصر كثيرا) لكن بغض طرف سعودي مشروط بعدم العمل في السياسة، وخرج من بوابة السياسة في سابقة غريبة، فلو كان في الأمر ما هو عابر لكان قرّر مثلا مقاطعة الانتخابات، لكننا اليوم مع حالة فريدة، حيث يقرّر زعيم سياسي تعليق كل حياته السياسة هو وعائلته وتيّاره ( رغم ان رأي قسم لا بأس به من التيّار وربما بين هذا القسم أمينه العام أحمد الحريري كانوا مع خوض الانتخابات حتى لو أدت الى بعض الخسارة وكادوا يناقشون ورقة سياسية حول ذلك).
ساق الحريري في بيان التعليق كثيرا مما أراد قوله. أثار عاطفة كثيرين من محبّيه وخصومه، وأثار سخط محبّين أيضا حيال هذا الانسحاب السياسي، كما عزّز شماتة البعض وبينهم حلفاء ( او كان يفترضهم حلفاء). قال ما يستطيع قوله، وكتم ما لم ولن يقوله على الأرجح في حياته.
لكن السؤال الأهم اليوم، اين الحريريون؟ أين أولئك الذين علّمهم رفيق الحريري ونقلهم من مراحل الفقر الى الطبقة الوسطى او الطبقة الثرية، أين أولئك الذي ساعدهم وفتح أمامهم أبواب الأمل، أين الذين أثروا من خلاله؟ صحيح أن الرجل بقي مشبوها بالنسبة لبعض خصومه الذين كانوا يتهمونه بأنه يبني مشروعا اقتصاديا كبيرا على حساب الفقراء وأصحاب الأملاك، وانّه على الأرجح يُمهّد للسلام مع إسرائيل، لكن ثمة من يقول العكس ومنهم الزميل الراحل مصطفى ناصر الذي كان وسيطا نزيها وكتوما بينه وبين حزب الله، وهو يروي مطوّلات عن العاطفة الكبيرة التي كان الحريري يتحدث بها عن المقاومة وضرورة تقوية لبنان ضد إسرائيل. فأين هي عشرات آلاف العائلات التي أفادت من الحريرية الاقتصادية والمالية.
لدى ولي العهد السعودي من الأسباب المالية والسياسية والشخصية ما يبرّر خطواته ضد الحريري، فالأمير محمد بن سلمان حاكم حتى أقربائه في العرش بتهم الفساد واستعاد جزءا كبيرا من أموالهم، وهو يعتبر نفسه وبلاده في أشرس معركة مع إيران وحلفائها وفي مقدمهم حزب الله وأنصار الله ( الحوثيون)، وكان وما زال يعتبر أن مقياس أي حليف في لُبنان هو بقدر مواجهته الفعلية للحزب وليس التصريح بشيء وفعل عكسه تحت الطاولات وفي الغرف المُغلقة. فكان مُبرّرا ان يقف بهذه القساوة ضد الحريري.
لكن ماذا فعل الحريريون؟ هل حصّنوا فعلا سعد الحريري شعبياً، هل ساندوه بشيء كبير غير بعض التظاهرات وعمليات قطع الطرقات الهزيلة؟ وأين حلفاء الحريري من الأب الى الأبن، هل فعلوا شيئا غير الأسف عديم الفائدة على مغادرته الحياة السياسية، أو الشعور باليتم، أو الإفادة من غيابه لتعزيز حضورهم الداخلي وحظوتهم في الخارج وكسبهم للمال؟.
مشكلة سعد الحريري إنه اهتم في سنواته الأخيرة بالخارج أكثر من الداخل، خلافا تماما للأمير محمد الذي حصّن وضعه الداخلي عبر خطوات إصلاحية جذبت الشباب السعودي وقلّمت اظافر المتدينين ووسعت هامش المتعة الثقافية والفنية وساهم في تعزيز الدور النسائي ووضع خططا للمستقبل، فمنع الخارج من التأثير عليه حتى في أوج التأزم مع الولايات المتحدة الأميركية.
ومشكلة الحريري الثانية أن شعبيته الواسعة في بيئته السنيّة، تصبح افتراضية في الأزمات، فلنتخيل مثلا لو استقال السيد حسن نصر الله، او الرئيس نبيه بري، او الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، لكانت التهبت الشوارع وما هدأت حتى يعودوا.
وأما مشكلة الحريري الثالثة، فهو أنه وجد نفسه عالقا بين مناكفات لن تنتهي قبل نهاية عهد الرئيس ميشال عون، فانزلق الى بعض فخاخها ودفع هو ثمنا لها ذلك أن الشعبية الطائفية للآخرين المتناكفين، تتحرّك فعليا لا افتراضيا حين يتأزم الوضع، ناهيك عنه أنه اختار الابتعاد عن لبنان كي لا يكون واجهة للانهيار منذ انتفاضة 17 تشرين 2019.
الحريري يحتاج ثروة مالية يعمل على جنيها الآن، لكنه كان يحتاج ربما أكثر الى بيئته كي تقول له بعد خطابه:” لا تستقل” . فهذا وحده كان كفيلا بأن يجعل الخارج يعيد النظر به وبتياره وبعائلته.
ربما هنا نعود الى صلب مشكلة كل الأحزاب والشخصيات والتيارات والزعامات في لُبنان حاليا، فالشعب يتحرك إما عاطفيا وغرائزيا وحزبيا، أو يتحرّك جزء منه لأنه يريد التغيير الحقيقي ولأنه ضاق ذرعا وقرِف من طوائف ومذاهب نهشت لحم الوطن ولأنه يريد بناء وطن عادل وسيد ومستقل ومدني ولا طائفي. كان يُمكن للحريري ان يستغل شبابه وتعاطف الناس معه وكاريزماتيته الشخصية وقربه من الناس، لتغيير مجاري الرياح وطرح مشروع وطني كبير، لكنه لم يفعل، أو انه شعر بالعجز عن ذلك وسط الانهيارات المالية وفقد ثروته والزلازل السياسية المحلية والاقليمية، وأما بيئته الضيقة فهي حتما اليوم كما قسم كبير من سُنّة لبنان وبعض الآخرين ضائعون وقلقون ويخشون الأسوأ.
ترجّل الحريري وقد لا يعود، رغم أن في لبنان لا أحد ينتهي، فماذا فعل الحريريون؟ لا شيء. وأما المنتظر في لبنان فهو حتما أسوأ مما يعتقد كثيرون، ولعل الوساطة الكويتية بمثابة انذار قبل محطات أخطر.