مقال اليوم

سورية والصِّين من الدَّعم السياسيّ إلى الشَّراكة الاقتصاديّة

سورية والصِّين من الدَّعم السياسيّ إلى الشَّراكة الاقتصاديّة

 د. محمد الحوراني *

لم تكنْ إعادةُ العلاقة بين دمشق وبعض الدول العربيّة والعالمية مُريحةً على الإطلاق لواشنطن التي غدَتْ أكثرَ شراسةً وعدوانيّةً بعدَ إخفاق «المشروعات الصهيوأميركيّة» والبدء بعودة الحياة إلى العلاقات العربية ـــ السورية، وإعادة ترتيب علاقات سورية مع بعض الدول الإقليميّة والعالميّة، ولعلَّ أكثرَ ما أزعجَ واشنطن وتلّ أبيب أنّ إعادةَ بعض العلاقات، ولا سيّما مع السعودية، كانَ بجُهودٍ صينية كبيرة أثمرَتْ زياراتٍ مُتبادلةً، على أعلى الـمُستويات بينَ الدولتَينِ الشقيقتَين، وهذا ما دفعَ واشنطن وبعضَ الدُّوَل إلى إعادة التسخين في بعض المناطق السورية.

وإذا كانت جمهوريةُ الصِّين الشعبيّة، وروسيا الاتحاديّة، والجمهورية الإسلاميّة الإيرانية، قد وقفُوا صفّاً واحداً إلى جانب سورية في حربها على الإرهاب، وإفشالها للمشروعات الهادفة إلى القضاء على الدولة السورية، فإنَّ هذا كانَ لهُ آثارُهُ الإيجابيّة في العالم أجمع، ولا سيّما مِن جهةِ إنهاءِ التَّفرُّدِ الأميركيّ في التحكُّم بالعالم، وكذلك القضاء على أُحاديّة القُطْب التي أرادَتْ بها الولاياتُ الـمُتّحدةُ الأميركيّةُ السيطرةَ على ثروات العالم والتحكُّمَ بقرارات الـمُنظَّمات والـمُؤسَّسات الدولية، بصفتها القُوّةَ الكُبرى والأشَدَّ عُتُوّاً عالميّاً.

ولـمّـا كانَ القضاءُ على الإرهاب، أو الحدُّ منه، هو الخطوة الأولى في اتّجاه إنهاء التحكُّم الإمبرياليّ ـــ الأميركيّ بمصير العالم، كانَ لا بُدَّ من خطوات لاحقة وأساسيّة، من شأنها أن تُعمِّقَ العلاقةَ، وتُـجذِّرَ التعاونَ بينَ سورية والدُّوَل التي وقفَتْ معَها في عدالة قضيّتها وحربها على الإرهاب، وتأتي في مُقدّمة هذه الدول جمهوريّةُ الصين الشعبية بما تمتلكُهُ من قوّة اقتصادية، وعلاقات دولية قائمة على الاحترام الـمُتبادَل، وسيادة القانون، وكذلك بمواقفها التاريخيّة الـمُنحازة إلى الإنسانيّة وحقوق الشعوب.

الرئيس الأسد الى الصين قريبا

مِنْ هُـنا تأتي أهمّيّةُ الزيارةِ التاريخيّة التي ينوي الرئيسُ بشّار الأسد القيامَ بها إلى جمهورية الصين الشعبيّة قريباً، على رأسِ وفدٍ حكوميّ واقتصاديّ كبير، وتأتي هذه الزيارةُ في ظلِّ الرغبة الأميركيّة ــــ الصهيونية في منعِ أيِّ تقدُّمٍ في العملية السياسية داخلَ سورية، معَ رغبةِ الطرفَينِ: الأميركيّ والصهيونيّ، في تعميق الشَّرْخِ داخلَ المجتمع السوريّ، وتأخير بَسْطِ السيطرة على الأراضي السوريّة الـمُحتلّة من العَدُوَّينِ الأميركيّ والتُّركيّ، وهو ما يعني حرمانَ الشعب السوريّ من الاستفادة من ثرواته الطبيعية وخيرات بلاده من نفطٍ وقمحٍ وغاز وقُطن وغيرها، وتأخير عمليّة البدء بإعادة الإعمار، ولا سيّما مع الاستمرار في فرض العقوبات على سورية وجميع الدول والـمُؤسَّسات والأفراد الراغبينَ في الاستثمار فيها، والحصول على مشروعات اقتصاديّة، تَصُبُّ في خدمة الـمُواطن السوريّ على نحوٍ أساسيّ، وتضعُ حدّاً لحالةِ التَّدهْوُرِ الاقتصاديّ الذي غدا المواطنُ السوريُّ عاجزاً عن تَـحَـمُّلِه.

ولـمّـا كانت الصينُ رائدةً في المجال الاقتصاديّ والخدميّ، وقوةً دوليّةً كبيرةً لها مصداقيّتُها في الداخل السوريّ وعلى الـمُستوى العربيّ والعالميّ، فإنّ الـمُواطنَ السوريَّ يُتابعُ بكثير من الأمل الزيارةَ الـمُرتقَبةَ للسيِّد الرئيس، وما سيتمخّضُ عنها من نتائجَ ملموسةٍ على الصعيد الاقتصاديّ والخدميّ، ولا سيّما مِنْ جهةِ إعادة الإعمار، والنهوض بالـمُؤسّسات السورية التي عصفت بها الحربُ، وكادَتْ أن تأتـيَ عليها، خاصّةً أنّ للصِّينِ تجربةً مُميّزةً في الإصلاح الإداريّ، والنهوض الاقتصاديّ، ومُـحاربة الفساد، وكانَ أساسُ هذا النُّـهوض مُرتكِزاً على إصلاح الـمُؤسَّسات والإدارات العامّة بكُلِّ عناصرها بوَصْفِها الحامِلَ الأساسيَّ لأيِّ نهضةٍ اقتصادية، إضافةً إلى دخولِ شراكةٍ ذكيّةٍ معَ القطاع الخاصّ من خلال تعاوُنٍ وثيقٍ بينَ القطاعَينِ العامِّ والخاصّ، هدفُهُ الرئيسُ تحقيقُ نهضةٍ اقتصادية متكاملة قائمة على تحقيق مصالح الدولة الوطنية وترسيخ قوّتها وتأمين كلِّ حاجات الشعب بما يجعلُهُ قادراً على الوقوف في وجه التحدّيات الخارجيّة، وهو ما ينبغي الاشتغالُ عليه والاستفادةُ منه في الحالة السورية، وتحقيق مزيد من التعاون بين البلدَين في مجال الطاقة، ومجالَــي البنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمار، إضافةً إلى التعاوُن في الـمجالات ذات التقنيّة الـمُتقدّمة والحديثة، بما فيها الطاقة الجديدة، وهو ما أكّدتْهُ بكين في الوثيقة التي أصدرَتْها عام 2016.

إنَّ وُجودَ كثيرٍ من الـمُشترَكاتِ في المواقف والرُّؤى بين دمشق وبكين، يَفْرِضُ عليهما مزيداً من التنسيق والتعاوُن، وُصولاً إلى علاقات على أعلى الـمُستويات، ولا سيّما معَ وُجودِ تقارُبٍ كبير في الإستراتيجيّات بينهما، ويُؤكِّدُ هذا ما أعلنَتْهُ الصينُ أكثرَ مِنْ مرَّة، أنّها تُقدِّرُ عالياً الـمُبادرةَ الإستراتيجيّةَ التي طرحَها الرئيسُ بشّار الأسد لأجلِ التوجُّهِ نحوَ الشرق، مُؤكِّدةً أنّـها تتوافَقُ بشدّةٍ معَ الـمُبادرَةِ الصِّينيّة «الحزام والطريق» التي طرحَها الرئيسُ الصينـيّ «تشي جين بينغ» عام 2013، إضافةً إلى الموقفِ الـمُشترَك الـمُناهض للإمبرياليّة الأميركيّة والرافض للنزعات العُدوانية، وهو ما يجعلُ العلاقةَ بينهما محوريّةً ومهمةً، ولا سيّما في دعم الشعب السوريّ في صموده ضدَّ الإرهاب المدعوم دوليّاً، والحفاظ على وحدة تُرابِهِ والنهوض بـمُؤسَّساتِه وإعادة إعمار ما دمَّرَتْهُ الحرب. 

الثقافة ايضًا على طريق الحرير

مِنْ جهةٍ أُخرى، تبدُو الحاجةُ مُـلِــحّةً أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى إلى تعزيز العلاقات الثقافيّة بينَ الصِّين والدُّوَل العربيّة عامةً، وبينَ بكين ودمشق خاصّة، لِـمَـا تَحمِلُهُ الثقافةُ والحضارةُ الصينيةُ من عُمقٍ حضاريّ وتاريخيّ وانفتاح وتسامُح أخلاقيّ يتقاطعُ في كثير من تفاصيله معَ الانفتاح والتسامُح الذي تَحمِلُهُ الثقافةُ العربيةُ الأصيلةُ القائمةُ على احترام الآخر والقَبُول بالتعدُّديّة، وليسَ أدلّ على هذا من الانفتاح الثقافيّ الصينيّ على العالم، الذي جعلَ من الثقافة الصينية ثقافةً عابرةً للحدود والقارّات، كما هو الاقتصاد الصينيّ.

وفي هذا السِّياق، يأتي الحرصُ الصينيُّ على افتتاحِ مراكزَ ثقافيّةٍ صينيّةٍ في عددٍ من دُوَلِ العالم، إضافةً إلى افتتاح معاهد “كونفوشيوس” الصينيّة لتعليم اللُّغةِ الصينية في عددٍ من الدُّولِ العربيّة، ونَشْر الثقافة الصينية بوصفها القُوّةَ الناعمةَ للصين في العالم، وهو ما جعلَ الصينَ أقربَ بثقافتِها وحضارتِها وسياستِها إلى الشعب العربيّ وشعوب العالم، وبالتالي نجحَت الصينُ في تطبيق مقولة الزعيم الصينيّ “هو جينتاو”: “علينا أن نعملَ على دَفْعِ خُروجِ الثقافةِ الصينيّةِ إلى العالم، ودَعْمِ إشعاعِ ثقافةِ الأُمّةِ الصينيّةِ في العالم”، وهو ما عُرِفَ بنظريّةِ “التناغُـم”.

وإذا كانت الحربُ الإرهابيّةُ على سورية، وهي حربٌ أميركيّةٌ صهيونيّة بامتياز، قد عصفَتْ بالاقتصاد السوريّ، وأفْقَرَتِ الشَّعْبَ نتيجةَ الاحتلال والعقوبات، فإنَّ الصينَ ليست بعيدةً عن دائرة الاستهداف الأميركيّ، بل يظهرُ بوُضوحٍ مِنْ خلالِ تَزايُدِ الضغوط الأميركيّة على الكيان الصهيونيّ لإخراج الشركات الصينية من ميناء حيفا، ووضع العراقيل أمامَ عملِ الصين واستثماراتها في فلسطين الـمُحتلّة، إضافةً إلى الدعم الأميركيّ لتأسيسِ تكتُّـلٍ هنديٍّ عربـيّ ـــ صهيونـيّ ــــ أوروبـيّ بـمُشاركةِ بعضِ الدُّولِ العربيّة وبرعايةٍ كاملة من الولايات الـمُتّحدة الأميركيّة، مِنْ شأنِهِ أن يُؤدّيَ إلى خَلْقِ قُوّةٍ اقتصاديّةٍ مُنافِسَةٍ ومُناكفةٍ للصِّين، تَهْدِفُ إلى إضعافها اقتصاديّاً وتقليص حُضورها على مُستوى الشرق الأوسط والعالم مِنْ خلال تعزيز الحضور الهنديّ في الشرق الأوسط وزيادته عَبْرَ دَعْمِ “الممرِّ الهنديّ” بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركيّة والكيان الصهيونيّ، والتأثير في بعضِ دُوَلِ العالمِ ودَفْعِها إلى الخُروجِ مِنْ مُبادرة «الحزام والطريق» كما فعلَتْ إيطاليا.

وفي هذا الاتّجاه، يَحْرِصُ الرئيسُ الأميركيّ «بايدن» على إصدار أمرٍ تنفيذيّ يُوجِّهُ وزارةَ الخزانة الأميركيّة إلى تقييد بعض الاستثمارات الأميركيّة في الصين، وفي قطاعات التكنولوجيا فائقةِ الحساسيّة، بما في ذلك أشباه الـمُواصلات والذَّكاء الاصطناعـيّ، ويُعطي الأمرُ وزارةَ الخزانة الأميركيّة سُلطةَ حَظْرٍ أو سُلْطَةَ فَرْضِ القيود على الاستثمارات الأميركيّة في الكيانات الصينية، في ثلاثة قطاعات، هي أشباهُ الـمُواصلات والإلكترونيّات الدقيقة، وتقنياتُ المعلومات الكموميّة، والأنظمةُ الـمُحدّدة للذكاء الاصطناعيّ.

إنّ ما تُعانيهِ سورية من مُـحاولاتٍ لتأجيج الصِّراع في داخلها، وإنفاق الأموال في سبيل استمرار احتلالها وتقسيمها، معَ رغبةٍ أميركيّةٍ في إخراج مزيدٍ من الجغرافيا السوريّة من كنفِ الدولة الوطنيّة فيها، وما يعنيهِ هذا من إحكامٍ للقبضة الأميركيّة الصهيونيّة على المنطقة، يستدعي إطلاقَ مُبادراتٍ داخليّة وخارجيّة مِنْ شأنِها أن تُعزِّزَ الصُّمودَ الداخليّ، وتنهضَ بالواقع المعيشيّ، كما من شأنها أن تذهبَ بالعلاقات السورية العربيّة والعالميّة، ولا سيّما مع الصين، إلى الاتّجاه العمليّ دُونَ تباطُؤٍ أو تأخيرٍ مِن شأنِهِ أنْ يُسْهِمَ في إحكام القبضة الأميركيّة على المنطقة والعالم، ومِنْ هُنا تغدُو زيارةُ الرئيس الأسد إلى الصِّين ضروريةً، لأنَّ الصينَ هي الأقدرُ على الاستثمار في المشروعات الاقتصاديّة والخدميّة في سورية، كما أنّها الأقدرُ على النُّـهوض بالواقع الخدميّ من خلالِ قُدرتِها الفائقة على الاستثمار في قطاع الكهرباء والصحّة والنقل واستخراج الثروات الباطنيّة وغيرها، وهُنا يُمكِنُنا الحديثُ عن شراكةٍ حقيقية بين الصين وسورية، وعن ثقةٍ كبيرةٍ مِنَ الـمُواطن السوريّ بقُدرةِ الصين على تخليصِهِ من أنقاض الحرب وآثارها، كيفَ لا، وهو الذي عَـلِـمَ هذه القدرةَ والكفاءةَ من خلالِ المشروعات الصينية في كثيرٍ من الدول العربيّة ودُوَل العالم؟! ومن حقِّ الصِّين أنْ تكونَ رائدةً في الاستثمار في سورية، وهي التي كانتْ أحدَ أهمِّ شُركاءِ سورية في حربها على الإرهاب وإفشال المشروعات الـمُعادية لها، بل إنَّ مِنَ الواجبِ على سورية تهيئةَ الأجواء والـمناخ الـمُلائم للاستثمارات الصينيّة فيها، بعيداً عن الروتين والبيروقراطيّة، لِـمَـا تَـحْـمِلُهُ الصينُ من مصداقيّةٍ في مشروعاتها الاقتصاديّة وسياساتها الخارجيّة القائمة على الوقوف مع القضايا العربيّة والعالمية القادمة، بعيداً عن الضغوطات الخارجيّة، وهو ما ظهرَ بجلاءٍ منذُ نجاحِ الثورة الصينيّة عام 1949، وما رافَقَها من دعمٍ لحركاتِ التحرُّر في الوطن العربيّ، انطلاقاً من مؤتمر «باندونغ»، وليسَ انتهاءً بما تُقدِّمُهُ مِنْ دعمٍ إلى كثيرٍ من الدُّوَلِ العربيّة ودُوَلِ العالم، وهو الدعمُ الذي أثنى عليه السَّيِّدُ الرئيس بشّار الأسد أكثرَ من مرّة، مُعرِباً عن تقدير الشعب السوريّ لوقوفِ الصين إلى جانبِهِ سياسيّاً في الـمحافلِ الدوليّة، وهو موقفٌ يُؤكِّدُ التزامَ الصين بالقانون الدوليّ والسلام العالميّ، إلى جانبِ الجهودِ الكبيرة التي تَبذلُها الصينُ للحفاظ على وحدة الأراضي السورية ووَقْفِ الحرب التي تُشَنُّ عليها، وتقديم الـمُساعدات الإنسانيّة الكبيرة التي من شأنها أن تُخفِّفَ من الآثار الكارثيّة للحرب والزلزال الـمُدمِّر الذي ضربَ سورية في السادس من شباط عام 2023.

لقد آنَ الأوانُ للانتقال بالعلاقة السورية ـــ الصينية من الدعم السياسيّ، والدّعم في الموقف، والوقوف إلى جانب الدولة الوطنية السوريّة في إفشال المشروعات التآمُرية والـمُخطّطات العُدوانيّة، وصولاً إلى شراكةٍ اقتصاديةٍ كاملةٍ ومُتكاملة، مِنْ شأنها أنْ تضعَ حدّاً للغطرسة الأميركيّة، وتُنْهِـيَ أُحادِيّةَ القُطبِ في السِّياساتِ العالميّة.

د. محمد الحوراني: كاتب ورئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button