سامي كليب
من المعروف عالميا وفي علم السياسة والمجتمع، أنه بعد الحروب الكُبرى أو الويلات التي تحلّ على دولة أو أمّة، تعمل الأدمغة على انتاج مشاريع كُبرى وجديدة لإصلاح الخراب أولا، ثم للتأسيس لدولة ومجتمع ونظام يشعر معهم الناس بعودة الأمل، فينضوون تحت لواء الورشة الكُبرى، مُدركين أن فيها مستقبلا لأولادهم، وضوءا في آخر النفق.
الدول العربية التي دفعتها سذاجتها في الحروب العالمية وما تلاها الى عقد تحالفاتٍ بُنيت على النخوة والعنتريات والغباء أو التآمر لا على العقل والمنطق والاستراتيجيا مع دولٍ استعمرتها لاحقا، استنبطت مشاريع مختلفة وغريبة بعد خرابها، رسّخت في معظمها دكتاتوريات مُباشرة أو مقنّعة، أو أسست لأنظمة عسكرية قبضت على الحُكم بالحديد والنار، فأوحت بالاستقرار، ونجحت الى حدٍ ما في تحسين بعض الحياة الاقتصادية، لكنها خنقت المجتمع.
لُبنان تمايز عن غيره ب ” الوهم”، فتعدّدت وجه الوهم فيه، فقامت دولة ليس فيها شيءٌ من مقومات الدولة الحديثة، رسّخت حكم الطوائف والمذاهب والاقطاعيات والبرجوازيات الاقتصادية التي بنت ثرواتها من التعامل مع الخارج وليس من عرق الجبين أو الإخلاص للوطن، وكانت هذه الطوائف نوعا من الدكتاتوريات المُقنّعة بحيث ساقت الناس كالقطعان وتحكّمت برقابهم من أجل لقمة العيش. ثم أوحت هذه الدولة لأبنائها والعالم ب ” وهم ” الانتعاش، رغم أحزمة البؤس التي ساهمت في تأجيج الحروب، وكذلك ب ” وهم” الحريّات التي سُرعان ما تحولت الى فوضى والى غابةٍ من الاستزلام السياسي والإعلامي للخارج، ثم جاء ” وهم ” التحرير الفلسطيني من أرض لبنان، فتحوّل لبنان الى دويلات داخل الدولة، تقاسمتها قوى عربية ودولية خارجية فتحطّم الوهم بالصراعات الداخلية والعربية قبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وبدأ فعليا القضاء على الحلم الفلسطيني من قلب لبنان، ثم عبر على جثث الوطن وهم قيام دولة بدعم إسرائيلي، كأنما إسرائيل ستفرش للفائز على دباباتها ورودا وأنهار لبن وعسل ثم تغادر، وانتهى الأمر ب ” وهمين” كبيرين هما اتفاق الطائف واتفاق الدوحة، اللذين رفعا شعارات كبيرة غير قابلة للتطبيق، ونقلا بعض صلاحيات الطوائف الى طوائف أخرى، فتعزز حكم المذاهب في ظل وهم ” قيام دولة حديثة” . وهو الوهم الذي تلاعب فيه الوجود السوري باللعب على التناقضات قبل ان يكتشف أن من دعمهم وصاغ لهم القوانين وعزز سلطاتهم، كانوا أول من تظاهر ضده بعد القرار 1559 الداعي لإخراج القوات السورية من لبنان. وها أن لُبنان غارق اليوم بأوهام ساسته بأن محورا سوف ينتصر على آخر، وأن الأمور ستتغير لاحقا. وعلى غرار المُعتاد، فلكل محور جوقته السياسة والإعلامية الجاهزة للمنابر الداخلية والخارجية.
وسط هذا الصراع المرير، تنطلق اليوم الدعوة الى ” وهم” الحوار، والداعون له كما المعارضون يعرفون تماما أن القضايا الكُبرى لا يُمكن الاتفاق عليها، ومنها مثلا تغيير طبيعة النظام والاستراتيجيا الدفاعية وحصص الطوائف، وينطلق معها ” وهم” الاتحادات والنقابات العُمّالية التي استيقظت على الخراب بعد حصوله، فلو أن مصيبة واحدة من مئات المصائب التي حلّت بالشعب اللبناني، وقعت في دولة أخرى لكان الاتحاد العُمالي ألهب الشوارع وأسقط حكومات وأجبر الدولة على التراجع. لكن الاتحادات في لُبنان هي ل ” صاحبها” من هذا الحزب أو ذاك.
وفي هذا الوقت بالذات هناك ” وهمان” كبيران آخران، أولهما أن اقطاب النظام السابق من كل الطوائف، يعتقدون أن الأمور يُمكن أن تعود الى سابق عهدها وأن هذه المرحلة تتطلب فقط صبرا واستمرارا في التحايل والتلاعب على القوانين و ” ايهام” الناس بأن ليسهم لهم غير هذه الأقطاب لحسن سير حياتهم وقوت يومهم، وثانيهما وَهْمُ المجتمع المدني وغابةِ المنظّمات غير الحكومية التي تتحرك فيه، بعضها لأهداف وطنية حقيقية، وبعضها الآخر لأهداف لا يعرف غير الله تفرّعاتها، بأن الإطاحة بهذا النظام وكل ما فيه ” كلن يعني كلن” صار قاب قوسين أو أدنى.
الواقع، أن كل ما تقدّم ما عاد ينفع، فالخراب صار شاملا، والدولة التي كانت بالأصل شبه دولة قد قُتلت بخناجر من صنع وهمها، والنظام انهار تماما من ذاته لأن مقوّمات موته كانت فيه وكان يعيش على ” الوهم”. لبنان بالتالي يحتاج الآن الى ورشة كبيرة، يتقدّمها المفكّرون وخبراء السياسة والاقتصاد والاجتماع والمثقّفون تساندهم عقول خارجية متخصصة، وذلك لتقديم مشروع يُشبه الى حد كبير مشروع ” مارشال” (اسمه الأصلي برنامج الإنعاش الأوروبي) الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك حين شجعت أميركا الدول الأوروبية للعمل بين بعضها وبناء ما خرّبته الحرب والتأسيس لأنظمة واقتصادات جديدة.
الترقيع ما عاد ينفع، وحبوب الأسبيرين ما عادت قادرة على مداواة السرطان. لكن وسط كل هذا الخراب والسوداوية، ثمة فرصة هائلة أمام لُبنان حاليا بعد دمار كل ما فيه. ثمة فرصة كبيرة للتفكير بتأسيس دولة حقيقية تقوم على العدالة والمدنية ( لا الطائفية) وعلى مبدأ الانتماء للوطن لا للمذاهب أو الخارج، وتُبنى على أسس ديمقراطية حقيقية ( لا على خزعبلات الديمقراطيات التي صيغت على الوهم اللبناني) ، ويتم الفصل الحقيقي للسلطات، ويصاغ برنامج اقتصادي انقاذي حديث وحضاري وواقعي بمساعدة المؤسسات العربية والدولية، وتبدأ فيه لجان مُتخصصة بعلم الاجتماع والعلوم النفسية بمساعدة الناس على تصحيح الخراب الداخلي في نفوسهم واقناعهم بأهمية تأسيس دولة حديثة، ويقرّر شرفاء الإعلاميين التأسيس لمنظومة أخلاقية وشرعة إعلامية تمنع هذا الترادح البشع وتمنع أي تمويل خارجي مشبوه بحيث يلعب الاعلام دور الاستنهاض الوطني وتصحيح الخلل المُجتمعي، وتوضع خطة متكاملة لحماية حدود لُبنان على قاعدة وطنية شاملة، وتُنسج خطة حقيقية وواقعية للعلاقات العربية والإقليمية والدولية على أساس مصلحة الوطن لا مصلحة هذا الطرف أو ذاك.
لن ينفع أحد لُبنان إذا بقي على ” وهم” انتصار محور ضد آخر، أفغانستان عرفت أكبر تدخّلين دوليين في التاريخ، الاتحاد السوفياتي وحلف الأطلسي، أين هي الآن.. وغيرها من الأمثلة الكثير عبر هذا العالم المُضطرب…
لُبنان الآن أمام فرصة تاريخية وحقيقية، كي يبني دولة حديثة تصبح مقصدا لسياح العالم لما فيه من ثروات وحضارات وامكانيات طبيعية وبشرية، ولما فيه من تراث انفتاحي وحضاري وثقافي ولغوي. وكي يبني اقتصادا مُنتجا لا ريعيا ولديه الإمكانيات الكُبرى لذلك. لا بُد للمفكّرين ورجال الاختصاص والمثقفين وأصحاب الخبرات المحلية والعالمية، بأن يُباشروا بوضع خطة ” مارشال” مُصغّرة، وهنا يستطيع المجتمع المدني المُخلص والشريف أن يلعب دور كبيرا، وتستطيع القوى الحيّة حتى داخل الأحزاب التقليدية والحديثة المساهمة بهذه الورشة الكبيرة (لان في الأحزاب اليوم ناقمين أكثر مما يعتقد كثيرون). أما الاعتماد على أهل النظام السابق بكل طوائفهم لأجل الإنقاذ فهو الوهم الأكبر، ذلك أنهم كانوا وسيستمرون في غرقهم واغراق البلاد ب ” وهم” الخلاص.