آخر خبرافتتاحية

ماكرون بين لبنان والخليج وإيران:ما المُنتظر؟

التقرير الاستراتيجي الاسبوعي 

 باريس سامي كليب:

مجرّد أن منحت أميركا جائزة “ابطال مكافحة الفساد” الى الإعلامي رياض قبيسي، حُجبت كل أخبار جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاستثنائية الى الخليج والتي كان للبنان حضورٌ واضح فيها. هذه هي الحقيقة الفرنسية المُرّة: تُجاهد فرنسا في وقوفها الى جانب بيروت ولتعزيز مصالحها في الشرق الأوسط، ثم يكفي أن تقوم واشنطن بعمل بسيط حتى تخطف الأنظار، ويلحقها الإعلام اللبناني شُكراً أو شجباً وفق المحور المنتمي اليه.  فماذا في جُعبة ماكرون فعليا؟ 

       كان وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما يقول لنا حين نلتقيه في باريس: إن واشنطن تنظر الينا كأوروبيين من فوق، وتريدُنا أن نكون مجرد خزينة مال، بحيث تقوم هي بالمشاريع في الشرق الأوسط، ونحن ندفع. ويقول زميله السابق أيضا هوبير فيدرين في كتابه “عوالم ميتران” إنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يكن لفرنسا سياسية أو دورٌ كبيرين في الشرق الأوسط. ولعلّ وزير الدفاع السابق جان بيار شوفنمان (الذي سأعود الى كتابه القيمّ في مقالٍ غدا) يكشف كثيرا من هذه الأسباب خصوصا بعد الحرب على عراق صدّام حسين. فهل ينجح ماكرون حيث فشل أسلافه؟

حاليا يتعلّق ساسةُ لبنان الفاشلون، ومعهم الشعب اللبناني الفقير والمدمّر بسبب الذين انتخبهم، يتعلّقون بأهداب زيارة الرئيس ماكرون الى الخليج، على أمل أن تكون قد حملت شيئا يؤدي الى الانفراج. فماذا فعل الرئيس الفرنسي هناك؟ دعونا نرى ذلك بالمعلومات لا بالمغالاة المعهودة في معظم إعلامنا وعند أبرز سياسيينا الذي ينتظرون دائما ما يفعله الخارج بوطنهم بعدما باعوه الى المحاور المتنازعة.

قال ماكرون في ختام جولته الى الإمارات والسعودية فقطر التالي:

  • إن دور فرنسا في الشرق الأوسط هو البحث عن توازنات، ومد جسور الحوار، والمساهمة في بناء السلام والاستقرار.
  • إن جُزءا من أمننا الجماعي يدورُ في الشرق الأوسط، ولذلك نعمل بقوة لحل الأزمات التي يُثيرها عدم الاستقرار والإرهاب والآلام، وأنا أفكّر خصوصا بلبنان وليبيا.

وقد لوحظ أن عبارة ” سلام واستقرار” تكرّرت عشرات المرات في المحادثات وأيضا في البيانات الختامية المُشتركة، وذُكرت ” الاتفاقات الابراهيمية ” في أبو ظبي كأحد طرق السلام حاليا.

نفهم من هذا الكلام أن فرنسا ليست فقط قلقة على لبنان وإنما أيضا على الأمن الجماعي في المنطقة، وهذا يشغل في الواقع الكثير من الأطراف، في ظل ضبابية التفاوض النووي، وتقدّم مشاريع إقليمية ودولية كثيرة للتنافس في المنطقة، وهي في معظمها مُنافسة للدور الفرنسي أو راغبة بإلغائه إن استطاعت.

ماذا عن لبنان؟

نُلاحظ في تحليل نصوص البيانات الختامية الثلاثة أن لُبنان ذُكر 9 مرات في السعودية، و7مرات في قطر (التي تحاول التقدم على حساب الرياض لبنانيا) بينما لم يُذكر ولا مرة في البيان الختامي الاماراتي الفرنسي، بالرغم من أن زيارة ماكرون الى أبو ظبي كانت الأهم اقتصاديا لباريس.

تتفق فرنسا والسعودية حول ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات شاملة تتعلق بالقطاعات ” المالية والطاقة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود” وكذلك بشأن “حصر السلاح بالمؤسسات الشرعية للدولة “و نشر الجيش اللبناني وتطبيق القرارات الدولية كافة ومساعدة الجيش اللبناني والقوى الأمنية. هذه المطالب جميعها وردت في البيان الختامي السعودي الفرنسي، وأضيف اليها 3 مطالب  دائمة للسعودية وهي  :  “الاّ يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال ارهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدرات وتطبيق اتفاق الطائف حرفيا ( فهو يطالب بنزع سلاح الميليشيات التي تضع السعودية وباريس سلاح حزب الله بينها أو في مقدمها)”.

لكن باريس تتواصل وتتشاور مع حزب الله كما حالها مع جميع الأطراف اللبنانية، بينما الرياض تعتبره إرهابيا وقطعت كل اتصالاتها به منذ سنوات طويلة.

وصل ماكرون الى السعودية حاملا معه ورقة استقالة الوزير جورج قرداحي الذي كان في أيامه الأخيرة يسمع عبارة واحدة من حلفائه تقول:” خذ القرار الذي تريده ونحن معك”، وهي لا شك عبارة تختلف تماما عن ” لا تستقل ونحن معك”. فحين اتخذ قرداحي قراره، كان يُدرك أنه ربما صار عبئا أكثر من أي شيء آخر.

حاول الرئيس الفرنسي القول إن الحكومة اللبنانية قامت بمبادرة حُسن نية وواجهت حزب الله باستقالة قُرداحي، وإن بادرة حسن نية مُقابلة من السعودية ستكون جيدة لتشجيع مبادرات أخرى. جاء الرد السعودي حازما، بان أي مساعدة إنسانية للبنان ستتعلق بمشاريع خاصة ومحدّدة ولن تمر بدوائر الدولة، وأن على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن يُبرهن استقلاله عن حزب الله كي يُعاد النظر بالأمر وأن يُباشر بإصلاحات (تُدرك السعودية وفرنسا ان الهدف الأهم منها هو تقليص دور الأغلبية البرلمانية الحالية وتشجيع المجتمع المدني). وهذا ما تم إبلاغه لرئيس الحكومة في الاتصال الهاتفي بعد ان شكره ماكرون على استقالة قرداحي.  

لا شيء أكثر من ذلك حيال لُبنان، على الأقل في المدى المنظور، أي قبل نهاية العهد الحالي، ومعرفة نتائج الانتخابات المقبلة.  

جديرٌ ذكره هنا أن فرنسا قدّمت للبنان بين عامي   2020 و2021 نحو 155 مليون يورو، بينها 30 مليون مساعدات غذائية، و30 مليونا في مجالات الصحة (إعادة تأهيل مُستشفى الكرنتينا، ودعم مُستشفى رفيق الحريري، ونصف مليون لقاح فايزر)، 65 مليون للتربية دعما للمدارس الفرنسية والمدارس الرسمية مع منح للطلاب، و20 مليونا لإعادة تأهيل مواقع ثقافة أو تراثية ودعم متحف سرسق والمركز الوطني للسينما، إضافة الى مساعدات مستمرة لمنظمات غير حكومية.

أما الباقي فهو توبيخ دائم للطبقة السياسية اللبنانية التي تتحمل كل المسؤوليات والتي تعتبر فرنسا والرياض أن عليها الشروع فورا في الإصلاحات للحصول على دعم خارجي (وهو ما ستكرره قريبا السفيرة الفرنسية الناشطة جدا آن غريّو في مقابلتها على قناة أل بي سي مع الزميل ألبير كوستانيان).

 

ماذا عن إيران؟

زيارة الرئيس ماكرون الى الخليج، تزامنت مع استئنافٍ للحوار المُباشر بين الامارات وإيران، مقابل تجميد الحوار الإيراني السعودي بسبب حرب اليمن ورفض طهران المُساهمة في إيجاد حل والضغط على الحوثيين. لذلك فإن الكلام ضد طهران في السعودية كان، ولغريب الصُدف، أعلى سقفا من الكلام في الإمارات، وكاد يختفي في قطر التي تربطها بطهران علاقات عضوية وبينها المشاركة في أكبر حقل غاز في العالم، رغم ان الطرفين تقاتلا على أرض سورية، تماما كما تنافرت المصالح الإيرانية التركية على الأرض السورية لكنها لم تؤثر على علاقات البلدين.

في تحليل سريع للبيانات الختامية الثلاثة بين ماكرون ومسؤولي هذه الدول نلاحظ الفروقات التالية في الكلام عن إيران:

في السعودية في الإمارات في قطر
·       قلق الطرفين من تطوير إيران برنامجها النووي وقلة تعاونها مع وكالة الطاقة الذرية

·       فرنسا ذكّرت بموقفها الحازم كي لا تستطيع إيران تطوير أو الحصول على سلاح نووي

·     اتفق الطرفان على أهمية احتواء النشاطات الايرانية المُزعزعة في المنطقة بما فيها   استخدام طائرات الدرونز التي أدت الى هجمات استهدفت المملكة

  .عبّر الجانبان عن قلقهما حيال وتيرة تطوير البرنامج النووي الإيراني

·       شدّدا على أهمية الحل التفاوضي

·       أشارا الى أن تعاون إيران وشفافيتها مع وكالة الطاقة الذرية الدولية حاسمٌ وكذلك بالنسبة لبرنامج الصواريخ الإيرانية ونشاطات إيران في المنطقة

·       تطرّق الطرفان الى المفاوضات النووية في فيينا.

·       أشارا الى أهمية التوصل الى حل تفاوضي يسمح لإيران وأميركا بالاحترام الكامل للاتفاق النووي

·       أكدا على ضرورة الاستمرار بالحديث عن عوامل القلق الأوسع بالنسبة لأمن المنطقة

·       ماكرون حيّا جهود قطر الدبلوماسية لتخفيف التوتر في المنطقة.

     

نُلاحظ أولا أن أميركا لم تُذكر في السعودية والإمارات كطرف ثانٍ في تعطيل الاتفاق النووي، بينما ذُكرت في البيان الختامي في قطر، ولم تُّذكر الجزر الثلاث طنب الكبرى وطُنب الصُغرى وأبو موسى في البيان الختامي في أبو ظبي، كذلك من المُلاحظ أن كلمة ” مُزعزعة ” لم تكن في البياني الاماراتي الفرنسي ولا في قطر وذُكرت فقط في الرياض.

حصيلة القول إن فرنسا كما السعودية والإمارات تربط جميعها الاتفاق النووي بضرورة التطرق الى مسألتي الصواريخ الباليستية والدور الإيراني في المنطقة، وقد وعد ماكرون بممارسة أقصى الضغوط الأوروبي لكي يُصار في المرحلة المُقبلة الى ضم الدول الإقليمية الى المفاوضات.

ماذا عن ماكرون نفسه ؟

كانت زيارة الرئيس الفرنسي الى الخليج ناجحة جدا، فالرجل مُقبلٌ على انتخابات صعبة في نيسان، ينافسه فيها اثنان شرسان جدا من اليمين المتطرف (لوبّان وزيمور)، ومُرشحة أقل خطورة (ان لم نقل معدومة هي الاشتراكية هيدالغو) من اليسار، ولذلك فإن العقود الهائلة التي وقّعها في الامارات والتي قاربت 60 مليار دولار وبينها طائرات رافال وهليكوبتر من نوع Caracal H225، والعقود المهمة في السعودية  وقطر تُساعده داخليا عند اللوبيات العسكرية والاقتصادية بعد ركود حاد عاشته فرنسا في أعقاب جائحة كورونا وتظاهرات السترات الصُفر. وهو كان قد سبق ذلك بمساهمته في انجاح قمة بغداد التي جمعت قبل الانتخابات العراقية كل المتصارعين في المنطقة من عرب واتراك وايرانيين. وربما سيتبعه ببداية الانفتاح على سورية بشكل مُباشر أو غير مُباشر .

كذلك فان ماكرون الذي يعزز الربط بين مبادراته الداخلية والخارجية، مُقبل على رئاسة الاتحاد الأوروبي مطلع العام، وهو يُدرك أن تباينات واسعة تُباعد بينه وبين المانيا ذات القوة الأكبر حاليا مقابل تعزيز تعاونه مع إيطاليا. ومعروف أن أوروبا فقدت بريطانيا تماما لصالح أميركا بعد خروجها من الاتحاد. لذلك فهو في خلال جولته على الخليج تحدث عن ” توازنات” جديدة في المنطقة، يقينا منه بأن الانسحابات الأميركية الحالية والمُقبلة تُفسح في المجال لفرنسا في لعب أحد أهم الأدوار العالمية في المنطقة بدلا من تركها للصين وروسيا.

وقد تبيّن من خلال الاتفاقات الاستراتيجية الهائلة التي وقّعها في الامارات وكذلك في السعودية التي يتفق معها على تعاون كبير في سياق خطتي البلدين الحاملتين الاسم نفسه (رؤية 2030)، وتعزيز التعاون مع قطر ( التي ساعدت كما الامارات القوات الفرنسية في أفغانستان للخروج بشكل آمن والتي لها دور أيضا في تخفيف الضغوط العسكرية عن فرنسا في منطقة الساحل الافريقي والتأثير على الحركات الإسلامية المُسلّحة) ، تبيّن أن الرجل يحاول أن يلعب دورا أكبر من الحجم الفرنسي السابق في الشرق الأوسط والخليج وافريقيا ( لا بد من الإشارة الى محاولته الراهنة إعادة مد الجسور مع الجزائر وفتح الأرشيف الفرنسي بشأن التحقيقات في ما جرى في خلال الثورة الجزائرية من فظاعات فرنسية).  

خلاصة القول

لا شك أن لبنان يبقى مُهما لكل هذه المصالح الفرنسية، لكنه حتما لن يكون أهم من الخليج حاليا بالنسبة لفرنسا ومصالحها السياسية والاقتصادية والتجارية الهائلة. وكذلك الخليج الواقف امام ضبابية الموقف الاميركي لجهة الانسحاب والاتفاق مع ايران او الصراع، فهو يفيد جدا من تعزيز الجسور مع فرنسا والاتحاد الاوروبي في موازنته الجيدة بين أميركا واوروبا وروسيا والصين. 

ولكن السؤال الأهم، ماذا لو فشل ماكرون في الانتخابات؟ ماذا يبقى للبنان؟

لذلك ربما من المهم الإفادة من حركته في الشهور الثلاثة المتبقية، هذا اذا كان ما زال عند ساسة لُبنان بعضُ ضمير للتحرك العاجل، وربما تكون الإفادة أوسع بعد تولي ماكرون رئاسة الاتحاد. فهل يصحو الضمير؟ ليس مؤكدا.  

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button