سامي كليب:
يكشف جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق في عهد الرئيس دونالد ترامب معلومات مهمة جدا حول تفكير سيد البيت الأبيض آنذاك جديّاً بالانسحاب من سورية، بشرط أن تتولى تركيا وسورية ضرب ما بقي من داعش، وعدم تعرّض الجيش التركي للكرد، والأهم من ذلك هو كشفُه عن رغبة ترامب في التفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد حول الرهائن الأميركيين.
لعل ما ورد في كتاب “The Room Where It Happened” ( الغرفة حيث حصل الأمر ، او الغرفة التي شهدت الأحداث وفق شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) والذي نُشر في العام الماضي، يثير فعلا الاهتمام، ويستوجب القراءة الدقيقة، لمعرفة الخفّة والفوضى اللتين أدار بهما ترامب شؤون البلاد والسياسة الخارجية لبلاده. لكننا سنختار منه اليوم فقط ما يتعلق بسورية.
الواضح أن فكرة الانسحاب من سورية، نوقشت خصوصا بين ترامب ومستشاريه مرارا وطيلة عهده، وأيضا بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في معظم اتصالاتهما، وذلك في سياق المفاوضات التي كان يجريها الرئيس الأميركي مع نظيره التركي لإطلاق سراح القس الإنجيلي آندرو برونسون مقابل طلب تركيا استعادة القيادي الإسلامي فتح الله غولن المناهض لأردوغان من أميركا ورفع العقوبات عن مصرف هالكبنك الذي تملكه الدولة التركية والذي اتُهم بمساعدة ايران على خرق العقوبات المفروضة عليها.
يقول بولتون:” بعد الضربة التي نفّذناها في سوريا، في شهر نيسان/ابريل، ردّاً على هجوم الأسد على دوما بالأسلحة الكيمائية، عادت سوريا لتظهر على الساحة بصورة غير مباشرة، عبر اعتقال تركيا القس آندرو برونسون… تدهورت الأحوال كثيرا في سوريا قبل إطلاق برونسون، وساورنا القلق بأن الأسد كان يخطّط في شهر أيلول/ سبتمبر هجوما ساحقا على محافظة إدلب، لذلك طلبت على وجه السرعة من وزارة الدفاع التفكير في رد عسكري محتمل في حال وقوع هذا الهجوم الكيميائي على امل ان تشارك فيه بريطانيا وفرنسا، وشرط الاّ يقتصر هدفنا هذه المرة على إمكانيات سوريا الكيمائية بل أن يطال تدمير قدرة الأسد على استخدامها نهائيا، أعطى ( وزير الدفاع) ماتيس هذه المرة رؤساء الأركان الحرية للقيام بما يجب عليهم القيام به، وبالفعل تم وضع خطط موسعة على أساس الافتراضات البديلة والاهداف والمحاذير”
لكن ماذا عن رغبة ترامب بالانسحاب، متى بدأت؟
- أبلغني كيلي أنه أثناء إحدى الحملات الانتخابية أسرّ اليه ترامب، مرة أخرى، برغبته في الانسحاب من الشرق الأوسط كليّا.
- كنت قد قدّمت الى ترامب إحاطة عن الوضع في سورية، فقال لي:” يجب أن ننسحب من هناك في أسرع وقت ممكن”
- قال ترامب في اتصالاته الهاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنه جاهز لمغادرة سورية اذا ما كانت تركيا تريد القضاء على ما تبقى من داعش، وان تركيا ستتكفل بالقضاء على من تبقى من هذا التنظيم ونحن سنخرج من سوريا، وطلب مني أن انفّذ المهمة دون ضجيج، واننا سننسحب لأن داعش قد انتهت ولان تركيا وسوريا تتكفلان بالقضاء عليها ( لاحظوا التناقض بين القول انه يريد من تركيا قتال ما بقي من داعش، وان داعش انتهت كما انه يعتمد على سورية أيضا للقضاء عليها).
- كنت اعتبر الانسحاب من سوريا خطأ كبيرا، بسبب التهديد المستمر الذي تمثّله داعش بالنسبة للعالم، ولان نفوذ ايران الواسع سوف يتزايد ، ومع خسارة خلافة داعش معظم أراضيها، فإن الصورة الكبرى أضحت واضحة وهي وقف توسع نفوذ إيران، ولو تخلّت واشنطن عن الكرد، فسوف يضطرون للتحالف مع الأسد ضد تركيا أو القتال لوحدهم والوقوع بين فكي كماشة الأسد وأردوغان.
- (في هذه النقطة حول الكرد) يقول: إن الخوف من أن يكون التخلي عنهم ليس تخليّا عن الولاء فقط، بل سوف ينتج عنه عواقب وخيمة في كافة أنحاء العالم، إزاء أي جهود مستقبلية هادفة الى تجنيد حلفاء يتم التعاطي معهم لاحقا كبضاعة مستهلكة يمكن التخلي عنها. وان السفير الأميركي السابق لدى تركيا جايمس جيفري لم يكن يحب الأكراد ويعتبر تركيا شريكا يُعتمد عليه في الناتو.
- كنتُ أصرّ على الاحتفاظ بمنطقة ” التنف” لأنها تجبر إيران على العبور من العراق الى سوريا عبر نقطة شمالية حدودية بعيدة وهي مهمة لنا عند تقاطع سوريا-العراق-تركيا، لكن ترامب كان يشكك بقيمة التنف، ربما لأنه يركز على داعش وليس على ايران. بينما العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني كان يقول لوزير الخارجية مايك بومبيو:” كلما بقيت القوات الأميركية في التنف، كلما كان الأردن أكثر أمنا، وذلك خشية انتقال الصراع السوري عبر الحدود الى الداخل الأردني.
- كان ترامب يعتقد ان القضاء على داعش والانسحاب يمكن ان يتمّا في خلال أسبوعين الى 4 أسابيع، وكان يقول:” لا نريد التورط في حرب أهلية، انهم (الاتراك والكرد) أعداء طبيعيون، فهم يتقاتلون منذ سنوات طويلة، لا نريد التورط في حرب أهلية، لكننا سننهي داعش” . اما وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو فقد قال لبومبيو:” إن الخيار يعود لكم، فاما نكون نحن على حدودكم، أو أن يكون الروس والايرانيون”.
- ترامب أصرّ على الانسحاب من سورية، لكنه واجه معارضة فرنسا والكونغرس إضافة الى إسرائيل حيث قال لنا السفير الإسرائيلي رون ديرمر ” ان الانسحاب هو أسوأ يوم مرّ علي حتى الآن في عهد ترامب”، وكان ترامب يقول لأردوغان انه يريد منه أمرين فقط هما ضرب داعش وعدم التعرّض للقوات الأميركية إضافة طبعا الى عدم ذبح الكرد.
التفاوض مع الأسد
هنا يكشف جون بولتون الذي كان يُعتبر أحد صقور الإدارة الترامبية عن رغبة الرئيس الأميركي آنذاك بالتفاوض مع الأسد فيقول حرفيا:
” تعقّدت كل نقاشاتنا حول دورنا في سوريا مع رغبة ترامب الدائمة بالاتصال بالأسد بخصوص الرهائن الأميركيين، الأمر الذي لم يحبّذه بومبيو ولا أنا؟ لكن من حسن الحظ أن سوريا أنقذت ترامب حتى من نفسه بمجرد رفضها الحديث مع بومبيو بخصوص هؤلاء. وعندما أبلغنا ترامب بذلك رد غاضبا :” أبلغوا الطرف السوري أننا سنضرب الأسد بقوة، بقوة شديدة جدا، إن لم يعيدوا لنا رهائننا. ابلغوهم بذلك، نريد عودة الرهائن خلال أسبوع من تاريخ اليوم أو أنهم لن ينسوا أبدا الضربة الشديدة التي سنوجّهها لهم” . ان هذا الموقف أدى على الأقل الى الغاء فكرة اتصال ترامب بالأسد، أما الكلام عن ضرب سورية فلم يتم تنفيذه.
من هذه الشهادات يُمكن ان نستخلص أمورا عديدة أبرزها:
- أن ترامب كان ينوي فعلا الانسحاب من سوريا لكنه خضع للضغوط التي كانت تُركز على خطر إيران، وما تصريحه العلني بالانسحاب قبيل نهاية عهده الا تأكيد على هذه الرغبة.
- أن ترامب كان يشكك في أسباب عدم اقدام وزارة دفاعه سابقا على الانتهاء من داعش رغم التأكيدات بأنها كانت قادرة على ذلك في خلال أسبوعين
- أن ترامب كان يريد فعليا التفاوض مع الأسد، ليس فقط من أجل الرهائن وإنما أيضا في محاولة لإغراء سوريا بالاقتراب من واشنطن والابتعاد عن موسكو وطهران، وكذلك لاستخدام الورقة السورية في التفاوض مع أردوغان.
- أن بولتون لم يكشف في كل هذا القسم المخصص لسورية، أي معلومة عن مفاوضات أميركية روسية بشأن الانسحاب، وانما حصر التفاوض بتركيا وإسرائيل والأردن وفرنسا وبعض الحلفاء.
- أن واشنطن كان يمكنها بالفعل ترك الكرد لمصيرهم أمام أردوغان الذي يقول بولتون انه ( أي الرئيس التركي ) ” يعتبر أن الكردي الجيد هو المردي الميّت رغم كل خطاباته في المهرجانات الوطنية”
- الأهم من كل ذلك، ان الدول الكُبرى تبحث عن مصالحها فقط وتستعد لترك أي حليف على قارعة الطريق حين تتناقض حمايته مع حماية مصالحها.
فهلا الانسحاب الذي لم يتمّ في عهد ترامب، يُمكن أن يحصل في عهد جو بايدن؟ ربما.