تغيير التربية للمستقبل كي يصبح الكون وطناً

روزيت الفار -عمّان
كان للكاتب و المفكّر والفيلسوف التربوي المعاصر إدغار موران رؤية موسّعة حول قضية التربية التي تُعتبر عِماد بناء المجتمعات الصحيحة والصحية لبناء الانسان وإعداده ؛ يرى في تغييرها ومعالجة أساليبها؛ ضرورةً حتميّة يجب أن تُولى اهتماماً جدّياً لتواكب تحدّيات التطور التكنولوجي الذي شمل جميع مناحي الحياة الحديثة؛ حيث لم يعُد مفهوم التربية القديمة -حين كانت الحياة أبسط ومتطلبات العيش بدائيّة غير معقّدة- مُجدياً.
في تحديده للدّروس أو المعارف السبع الواجب إدراجها ضمن المناهج التربوبية المستقبليّة؛ ركّز موران على ظاهرتي التركيب والتعقيد بمعنى التعدديّة والشموليّة في الفكر والكيان الإنسانيين، فهو يرى الأول فكراً ناتجا عن بناء وحدات جزئيّة (ثقافية، تاريخية، دينيّة) متعدّدة تقوم بتشكيله، والثاني كياناً شاملاً لجوانب وتوجّهات مختلفة ( بيولوجيّة، فيزيولوجيّة، نفسيّة) تقوم بتحديده، لكن، وفي كلتا الحالتين، يصعب فصل أيٍّ منها عن الآخر.
كان مفهوم “استمراريّة التغيّر ” أحد أبرز المفاهيم التي نوّه اليها الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير ما نوّه إليه موران؛ وهو ما يفرض علينا الاعتراف به وتعليم التّأقلم مع الأزمات والتحوّلات التي تواجه عالمنا بعقل منفتح.
نختصر ما رآه موران كضرورات يجب تعليمها في التربية المستقبلية بما يلي:
- تعليم قبول الأخطاء كأمور مهمّة في حياتنا وبأن المعرفة، مهما بلغت، لا يمكن أن تخلو منها. بمعنى أنه لا يوجد هناك معرفة يقينيّة أكيدة وثابتة تُعامل كمسلّمات؛ ما يدفعنا لتّحري تلك الأخطاء بغية تحديدها وفهم طبيعتها؛ ففي ذلك تهيئة للدماغ لمواجهة تحدياتها التي تهدّده وتعمل على تشويشه. يعود السبب بوجود الخطأ في المعرفة، إمّا لسوء التقدير الذهني أو نتيجة لعدم الإدراك الفردي الحقيقي أو لتضليل في الحواس. ويعطي موران نموذجا عن ذلك في نظرية مركزيّة الأرض، حيث كان يعتقد قديما -ولمدة 2000 سنة- أن الأرض هي مركز الكون؛ إلى أن أثبت جاليليو وبعض الفيزيائيين عدم صحة ذلك. وكذلك بيّن كيف أن كثيرا من الصراعات والحروب قامت نتيجة لأفكار وخرافات مغلوطة، دُمّرت بسببها بلاد وحضارات وقتلت الملايين. فالمعرفة إذا عمليّة متجّددة و نسبيّة ومتغيّرة ليس لها حدُّ، وأن الخطأ جزءٌ أساسي منها. فعلى التربية المستقبلية تعليم كيفية تجاوز المُعتاد والتركيز على التّعلّم الذاتي المبني على الشّك والنقد؛ الأمور التي تساهم ب عمليّة إصلاح الفكر الذي نادى بها موران في كتاباته.
إن تعليم تاريخ الأفكار ووضع كل منها بسياقه الصحيح (حيث أن لكل منها سياقات مختلفة وأن عدم وضعها بسياقها الصحيح يفقدها معناها الحقيقي؛ ما قد يؤدي لصراعات وعداوات)، يُمكّننا،حسب رأي موران، من معرفة الطريقة التي نشأت وتطورت بها تلك الأفكار؛ الأمر الذي يؤدّي بدوره لبلورة رؤية نقدية سليمة تؤدي لإصلاحها.
- تعليم الشرط الإنساني.
المقصود هنا أن الإنسان وِحدة مركّبة من أبعاد فيزيولوجيّة، وبيولوجيّة ثقافيّة، واجتماعيّة وتاريخيّة. وأن هذه الوحدة المعقّدة للطبيعة البشريّة هي جوهر وجوده والقاسم المشترك مع باقي البشر. ولِكون الفرد كائنٌ اجتماعيّ بفطرته يقدم له مجتمعه مجموعة من المعايير والقواعد المختلفة كي يعمل بها، كان على التربية المستقبلية أن تستحضر جميع تلك الأبعاد كي تنمّي الفكر النقدي عند الشباب وتخلق لديهم القدرة على رؤية الأمور من خلالها.
- تعليم الهويّة الأرضيّة. أي اننا نعيش جميعاً كبشر على كوكب واحد هو الأرض، فمصيرنا عليها مصير واحد، وأن الكوارث التي تحلّ بمناخها وبيئتها ستصيب الجميع، وخير برهان على ذلك قضايا الاحتباس الحراري وجائحة كورونا. ما يدفع تربية المستقبل للتركيز وبشكل قوي على تعليم الوعي بأهمّية هذا الكوكب والنظر إليه كوطن ينتمي إلية الجميع (من حيث انطلقت الفكرة الأصليّة للمواطنة)، والعمل على تنمية مفاهيم التعاون والتضامن الجمعي و تربية بيئيّة وأنثروبولوجية ومدنيّة متينة.
- تعليم الفهم والتفاهم مع الآخر.
نلاحظ أن جميع الصراعات والمشاكل التي تحدث بالعالم سواء على مستوى الأفراد أو الدول سببها عدم التفاهم. من هنا تأتي أهمية إدخال مفهوم ثقافة فهم الآخر وعولمته لتسهيل عمليّة التواصل بين الأفراد كأهم الدعائم التي تخدم الإنسانيّة ولتحسين العلاقات المتبادلة فيها وصولاً لعالم متناغم تسوده العدالة؛ وذلك بتقليص مساحة الخلافات -والتي نراها للأسف بتصاعد مستمر زمن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت منصّات للتّشاتم والتّحارب وإظهار الغيرة والعداوة حتى في الأوساط التي يفترض أن تكون مُثقّفة- أكثر منها كمواقع للتّآلف والتّقارب.
يأتي هنا دور التربيّة في تعليم أن البُعد أو المُشتَرك الإنساني، كضرورة حتمية لا غنى عنها تميّز البشر، في العمل على نشر ثقافة التقبّل والقبول والاعتراف به كحقيقة واقعيّة علينا التعامل من خلال التواصل والحوار والاعتراف بالآخر . “فالآخر” بالنهاية هو “الأنا” الشبيه المختلف الذي يجمعني به البُعد الوجودي المشترك.