آخر خبرمقال اليوم

السيناريو النووي الروسي ونهاية عدم الانحياز

 هادي جان بو شعيا

تشكل حلف شمال الأطلسي “الناتو” في الأساس كمنظمة عسكرية دولية للوقوف بوجه التوسعات السوفياتية. إذ وبعد النصر الذي حقّقه الاتحاد السوفياتي مع باقي الحلفاء على ألمانيا النازية، بات الفكر الشيوعي الذي كان يتبنّاه الاتحاد جذّابًا حول العالم أولا بسبب نشوة النصر، وثانيا لتركيزه على مباديء العدالة الاجتماعية ودعم البروليتاريا ضد الرأسمالية. وهو ما دفع واشنطن وحلفاءها للعمل على صدّه. 
 تأسّست منظمة حلف الشمال الأطلسي والذي يعرف اختصارًا بـ”الناتو” في العام العام 1949، واختيرت العاصمة البلجيكية بروكسيل عاصمة له، لأن فيها ولدت معاهدة الدفاع الأوروبي المشترك والتي شكلت نواةً الحلف الغربي قبل انضمام الولايات المتحدة اليه.
بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وانفصال دولٍ أوروبية كثيرة عنه وتقاربها مع الفكر الغربي الأوروبي خصوصا في أعقاب ما عُرفت بالثورات المُخملية في أوروبا الشرقية،  شهد هذا حلف شمال الأطلسي توسعًا على حساب الاتحاد الروسي، حتى في الدول التي تمنّعت سابقا عن الإنضمام اليه مثل فنلندا والسويد اللتين أصبحتا قاب قوسين أو أدنى من الالتحاق به. بالمقابل ثمة  دول أوروبية مهمة أخرى وعديدة ما زالت ترفض فكرة الانضمام .
هذه الدول الرافضة لفكرة الانضمام إلى “الناتو” تفضّل التزام الحياد للحفاظ على مصالحها الاقتصادية من جهة، ولتجنّب ويلات الحروب والصراعات من جهة أخرى. ولعلّ سويسرا هي في طليعة هذه الدول على الاطلاق، فالبلد الذي يطلق عليه البعض صفة “بنك العالم” لأنه الوجهة الآمنة بسرّيتها المصرفية للباحثين عن ملاذ لأموالهم ومقتنياتهم، يسعى للحفاظ على مصالحه وعلاقاته المتنوّعة مع مختلف دول العالم، وينتهج سياسة الحياد. وقد أقرّ دستور سويسرا الحياد، كما أنها  لم تنضم إلى الأمم المتحدة حتى العام 2002.
تعرف سويسرا مثلا الآن أن انضمامها الى  حلف شمال الأطلسي سيضعها في مرمى الاستهداف الروسي وربما  الاستهداف الصيني في المستقبل.
أما الدولة الأخرى التي ترفض الانضمام إلى الناتو فهي النمسا، تلك الدول، التي منذ استقلالها في العام 1955، قررت تبنّي سياسة الحياد الدائم والذي يعتبر مادة أساسية في دستور البلاد. إذ يؤكد القانون النمساوي على أنه وفي جميع الأحوال لن تنضم البلاد لأي تحالفات عسكرية كما أنها لن تسمح لأي دولة بإنشاء أو إقامة قواعد عسكرية على أراضيها؛ إلا أن سياسة الحياد التي كانت تتبناها تغيّرت إثر تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1991، حيث انضمت للاتحاد الأوروبي في العام 1995 وباتت جزءًا من السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد، فضلاً عن مشاركتها في بعض عمليات حفظ الأمن حول العالم. ومع ذلك ترفض فكرة الانضمام إلى “الناتو” ولا تزال حتى اليوم تمنع اقامة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها.
يضاف إلى هاتين الدولتين اللتين ترفضان الانضمام إلى الناتو قبرص، ربما قد لا يصح إطلاق عبارة رفض على علاقة قبرص بحلف شمال الأطلسي، لأن عدم محاولة انضمام سياسييها للحلف لا يرتبط بسياسة الحياد بل لإدراكهم المسبق بأنهم لن يستطيعوا الحصول على مثل هذه العضوية بسبب الفيتو التركي عليهم، وهو الفيتو الذي يحاول من خلاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استخدامه الآن ضد فنلندا والسويد، بعدما هدّد علانية بعرقلة قبول انضمام البلدين للحلف، وهو قادر على ذلك من خلال قوانين الحلف التي تُعطي كل عضو صلاحية الفيتو على انضمام أي دولة لا يريدها، لكن ثمة من يقول إنه يرفع هذا التحدّي للحصول لاحقا على مكاسب أميركية واوروبية أكثر بحيث يوازن مصلحة بلاده بين الشرق والغرب. 
الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس قالها صراحة، حيث اعتبر أنه من المبكر التفكير بالانضمام إلى حلف الناتو، لأن هكذا محاولة ستواجه معارضة تركية شديدة وهو على يقين أن المعارضة التركية ستلقى آذانا صاغية داخل دهاليز الحلف، خصوصًا أنهم بحاجة إلى الموقف التركي ضد الغزو الروسي لأوكرانيا.
معروف أن الحكومة التركية قدمت الدعم العسكري للأوكرانيين من خلال تزويدهم بطائرات بدون طيّار والمعروفة بطائرات “بيرقدار”، فيما لا يزال أعضاء الحلف  ينتظرون المزيد من الدعم التركي لأوكرانيا، خصوصًا أن العلاقات التاريخية الروسية-التركية ليست جيدة ودونها ملفات كثيرة معقدة على غرار الملف السوري والصراع الأذربيجاني-الأرمني. ولذلك يعي القبارصة جيّدًا أن الصوت التركي داخل “الناتو” قوي ومسموع الآن، غير أن ذلك قابل للتغير مستقبلاً وفق تبدّل المصالح.
كذلك الأمر بالنسبة لجمهورية إيرلندا  التي ترفض الانضمام للناتو حتى الآن. فلهذه الدولة   تعريفها الخاص للحياد حسبما جاء على لسان رئيسها مايكل هيغنز الذي أدان الغزو الروسي لأوكرانيا وقال بأن الحياد يجب أن يكون حيادًا ايجابيًا وليس سلبيًا حسب وصفه. ومع ذلك فجمهورية ايرلندا ترفض الانضمام للحلف وتتبع سياسة عدم الانحياز العسكري منذ عقود. كما أن سياستها الخارجية مبنية على أساس الخلاف مع بريطانيا حول ايرلندا الشمالية التي فصلتها بريطانيا عن الجنوبية في العام 1921، وهي لا تزال جزءًا من العرش البريطاني حتى الآن.
يذكر أن خلاف الشماليين مع الجنوبيين ليس بسبب بريطانيا فقط بل يوجد سبب طائفي أعمق أيضًا، حيث أن سكان جمهورية إيرلندا الواقعة في الجزء الجنوبي ينتمون في الغالب للمذهب الكاثوليكي في حين أن سكان ايرلندا الشمالية ذوو غالبية بروتستانتية.
أما الدولة الخامسة والأخيرة  الرافضة الانضمام الى حلف الناتو، فهي مالطا التي تعتبر أحد أصغر دول العالم وأكثرها ازدحامًا من حيث الكثافة السكانية وهي ترفض الانضمام لأنها دولة صغيرة لا تملك القدرات العسكرية أو الاقتصادية الكافية للدخول في صراعات وحروب. ولذلك ينص دستورها على أن تبقى محايدة وان لا تنضم لأي تحالفات عسكرية.
في المحصلة، ورغم أن معظم هذه الدول التي ترفض الانضمام لحلف شمال الأطلسي “الناتو” تفعل ذلك وفقًا لسياسة الحياد التي تتبناها، أو بناء على مصالحها،  إلا أن ذلك كلّه قد يتغير حسب تغيّر المصالح وحسب تحوّل طبيعة الصراعات السياسية والعسكرية الحالية. ذلك أن بلدًا مثل سويسرا يعتبر من أكثر البلدان حول العالم استعدادًا وجاهزية لسيناريو نشوب حرب عالمية ثالثة، على الرغم من كونها دولة محايدة بتأييد معظم دول العالم، إلا أنها لا تأمن على نفسها من أن تتحوّل حتى دون إرادة شعبها إلى جزء من أي حرب عالمية مقبلة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستبقى هذه الدول بمأمن إذا ما تطورت الحرب الدائرة حاليًا في أوكرانيا إلى حرب نووية؟!

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button