مقال اليوم

هل ينتقل التنافس التركي الإسرائيلي الى المواجهة؟

 محمد محمود شحادة

 

يشكّلُ الصراعُ على النُّفوذِ في الشَّرقِ الأوسطِ مشهدًا مركزيًّا في العلاقات الدوليّةِ، حيثُ تتقاطعُ مصالحُ القوى الإقليميّةِ مع القوى الكبرى الباحثةِ عن مواقعِ قدمٍ في هذه المنطقةِ الحسّاسةِ. وفي قلبِ هذا المشهدِ تبرُزُ تُركيّا وإسرائيلُ بوصفِهما دولتينِ تسعيانِ إلى تثبيتِ موقعِهما لاعبَينِ أساسيَّينِ في رسمِ ملامحِ المستقبلِ السياسيِّ والاقتصاديِّ والأمنيِّ للمنطقةِ. وعلى الرغمِ من أنّ العلاقاتِ بينهما شهدت تعاونًا استراتيجيًّا وثيقًا خلالَ تسعينيّاتِ القرنِ الماضي، إلّا أنَّها تحوّلت تدريجيًّا إلى حالةٍ من التنافُسِ والاشتباكِ مع صعودِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ في أنقرة، وتبنّيِه سياسةً أكثرَ استقلالًا وطموحًا في محيطِه الإقليميِّ.

في أذربيجانَ، تتجلّى أبرزُ صورِ التوازِي والتنافُسِ. فإسرائيلُ أقامت منذ التسعينيّاتِ علاقاتٍ وثيقةً مع باكو، واعتبرتْها حليفًا استراتيجيًّا ومَصدَرًا أساسيًّا للطاقةِ، إذ يُلبّي النفطُ الأذريُّ نحوَ 40% من حاجتِها. كما دعمت الجيشَ الأذريَّ بتكنولوجيا عسكريّةٍ متقدّمةٍ، كان لها دورٌ بارزٌ في حربِ كاراباخ الأخيرة عامَ 2020. في المقابلِ، وقفت تُركيّا إلى جانبِ “الأخِ الأصغرِ” كما تسمّيه، وقدّمت دعمًا مباشرًا عبرَ الطائراتِ المسيَّرةِ “بيرقدار”، ما ساعد أذربيجانَ على تحقيقِ تفوّقٍ ميدانيٍّ واضحٍ. ورغم هذا التوازي في دعمِ باكو، فإنّ أنقرة تخشى من تمدّدِ النفوذِ الإسرائيليِّ عند حدودِها الشماليةِ، لا سيّما مع إمكانيّةِ استخدامِ الأراضي الأذريةِ كورقةِ ضغطٍ على إيران، الأمرُ الذي قد يُعرقلُ الحساباتِ التركيّةَ.

في سوريا، تتضحُ ساحةُ الاشتباكِ الأكبرِ بين المشروعَينِ. فقد انخرطت تُركيّا في الحربِ السوريّةِ منذ عام 2011 دعمًا للمعارضةِ وسعيًا لإسقاطِ النظامِ أو على الأقلِّ إعادةِ صياغتِه بما يضمنُ نفوذَها. كما شنّت عملياتٍ عسكريّةً متكرّرةً ضدّ المجموعاتِ الكرديّةِ المسلّحةِ، لمنعِ قيامِ كيانٍ كرديٍّ متّصلٍ على حدودِها الجنوبيّةِ. أمّا إسرائيلُ، فانصبت استراتيجيّتُها على منعِ التموضُعِ الإيرانيِّ وحزبِ الله في الجنوبِ السوريِّ، فنفّذت مئاتِ الغاراتِ الجوّيّةِ على مواقعَ عسكريّةٍ مرتبطةٍ بهما. ورغمَ أنَّ الطرفينِ يلتقيانِ في رفضِ تمدّدِ إيران، فإنَّ حساباتِهما متناقضةٌ: تُركيّا تريد تغييرًا سياسيًّا عميقًا في دمشقَ، بينما تُفضّلُ تل أبيبُ الإبقاءَ على سوريا ضعيفةَ ومنهكةً دون حسمٍ نهائيٍّ قد يُعيدُ إليها الاستقرارَ. وقد قال الرئيسُ التركيُّ رجب طيّب أردوغان في أكثرَ من مناسبةٍ إنَّ “لا مستقبلَ لسوريا بوجودِ الأسد”، فيما اكتفى مسؤولونَ إسرائيليّون بالتشديدِ على أنَّ “الخطرَ الأكبرَ هو التمدّدُ الإيرانيُّ، وأمنُ إسرائيلَ خطٌّ أحمرُ لا يُمكِنُ تجاوزه”.

وفي الخليجِ، ينعكسُ التنافُسُ على شكلِ معركةٍ للزَّعامةِ والتأثيرِ. بعدَ الربيعِ العربيِّ، حاولت تُركيّا تصديرَ نموذجِها القائمِ على الإسلامِ السياسيِّ المعتدلِ، فدعمت جماعةَ الإخوانِ المسلمينَ وحركةَ حماسَ، ما أثارَ حفيظةَ السُّعوديّةِ والإماراتِ. في هذه الأثناءِ، وجدت إسرائيلُ في هذا التوتّرِ فرصةً لتقارُبٍ غير معلنٍ مع الرياضَ، خصوصًا في ظلِّ تنامي الخوفِ المشتركِ من إيرانَ ومن تمدُّدِ الإسلامِ السياسيِّ. وقد جاءت اتفاقيّاتُ أبراهام عامَ 2020 لتُكرّسَ هذا التحوّلَ، إذ انفتحت بعضُ دولِ الخليجِ مباشرةً على إسرائيلَ، في خطوةٍ أضعفت هامشَ المناورةِ التركيِّ. ورغمَ أنَّ أنقرة أعادت انفتاحَها على الرياضَ وأبوظبي منذ 2021، فإنّ تقارُبَ إسرائيلَ والسعوديّةِ في ملفِّ الأمنِ والاقتصادِ لا يزالُ يُثيرُ قلقَ صانعي القرارِ في أنقرة.

أمّا القضيّةُ الكُرديّةُ، فهي من أبرزِ ملفاتِ التناقضِ المباشرِ بين أنقرةَ وتل أبيبَ. فتركيا ترى فيها تهديدًا وجوديًّا لأمنِها القوميِّ، وتشنُّ بين حينٍ وآخرَ عملياتٍ عسكريّةً في العراقِ وسوريا للقضاءِ على نفوذِ حزبِ العمّالِ الكُردستانيِّ وحلفائِه. في المقابلِ، تحتفظُ إسرائيلُ منذ عقودٍ بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع القياداتِ الكرديّةِ، خصوصًا في العراقِ، وتدعمُ نزعتَهم الانفصاليّةَ. وقد علّق رئيسُ الوزراءِ الإسرائيليُّ بنيامين نتنياهو عامَ 2017 قائلًا إنَّ “الشعبَ الكرديَّ يستحقُّ دولتَه المستقلّةَ”، في إشارةٍ واضحةٍ إلى دعمِه غير المباشرِ لاستفتاءِ استقلالِ كردستانَ العراقِ. وبينما تحاولُ أنقرةُ سحقَ المشروعِ الكُرديِّ، تنظرُ تل أبيبُ إليه كورقةٍ استراتيجيّةٍ لإضعافِ خصومِها.

ولا يقتصرُ الصراعُ على الجبهاتِ العسكريّةِ والسياسيّةِ، بل يمتدُّ أيضًا إلى مجالِ الطاقةِ. فقد أسّست إسرائيلُ مع مصرَ واليونانَ وقبرصَ “منتدى غاز شرقِ المتوسّطِ”، مستبعدةً تُركيّا من حساباتِها. في المقابلِ، حاولت أنقرة أن تطرحَ نفسها ممرًّا أكثرَ جدوى لنقلِ الغازِ نحو أوروبا، لكنّ الخلافاتِ السياسيّةَ عطّلت هذا الخيارَ. وهكذا تحوّل الغازُ إلى أداةِ ضغطٍ إضافيّةٍ في لعبةِ الصراعِ على النفوذِ.

إنّ الصراعَ التُّركيَّ – الإسرائيليَّ ليس مواجهةً مباشرةً بالسِّلاحِ، وإنّما هو تنافُسُ نفوذٍ متعدّدُ الأبعادِ. ففي أذربيجانَ يدورُ حولَ كسبِ ودِّ باكو وموازنةِ الموقفِ الإيرانيِّ، وفي سوريا حولَ طبيعةِ المستقبلِ السياسيِّ، وفي الخليجِ حولَ الزَّعامةِ والتحالفاتِ، وفي القضيّةِ الكُرديّةِ حولَ مشروعينِ متعارضَينِ، وفي الطاقةِ حولَ خطوطِ الغازِ إلى أوروبا. ورغمَ أنَّ هناك لحظاتٍ من الالتقاءِ الظرفيِّ، مثلَ مواجهةِ النفوذِ الإيرانيِّ، فإنّ جوهرَ العلاقةِ يبقى تنافُسيًّا أكثرَ منه تعاوُنيًّا.

وبالنّظرِ إلى مسارِ الأحداثِ، يمكن توقُّعُ ثلاثةِ سيناريوهاتٍ محتملةٍ لعامِ 2026: الأوّلُ، استمرارُ التنافُسِ الباردِ بين أنقرةَ وتل أبيبَ من دونِ تصعيدٍ مباشرٍ، مع بقاءِ ساحاتِ الاشتباكِ في سوريا وشرقِ المتوسّطِ تحتَ السَّقفِ القائمِ. الثاني، تصاعُدُ التوتُّرِ إذا ما توسّعت العملياتُ العسكريّةُ التركيّةُ ضدَّ الأكرادِ في شمالِ سوريا والعراقِ، الأمرُ الذي قد يدفعُ إسرائيلَ إلى تعزيزِ دعمِها غير المباشرِ للقوى الكُرديّةِ. الثالث، إمكانيّةُ فتحِ نافذةِ تقارُبٍ محدودٍ في حالِ تغيّرَت أولويّاتُ الطرفينِ أمامَ تحدّياتٍ مشتركةٍ، مثلَ الملفِّ الإيرانيِّ أو مشاريعِ الطاقةِ. لكنَّ المؤكَّدَ أنَّ الشرقَ الأوسطَ سيظلُّ مسرحًا لصراعِ النُّفوذِ بينهما، وأنَّ توازناتِ الإقليمِ في 2026 لن تكونَ بعيدةً عن تفاعلاتِ هذه العلاقةِ الملتبسةِ.

تبقى الإشارة مهمّة إلى أنّه رغم كل هذا التنافر والتنافس بين إسرائيل وإيران، الا أنَّ علاقات الطرفين عرفت تطورًا كبيرًا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، وبقيت هذه العلاقات مستمرة على أكثر من صعيد حتى بعد طوفان الأقصى، لكنَّ محاولات التضييق الاسرائيلية على تركيا في سوريا، والتي ترافقت مع ارتفاع وتيرة حرب الابادة في غزة، أمورٌ دفعت أنقرة لوقف التبادل التجاري ومنع تحليق الطائرات الاسرائيلية في أجواء تُركيا والتضييق على السفن، غير أن جوانب أخرى من العلاقات لم تنقطع حتى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى