آخر خبرمقال اليوم

   أيّها الراكِبونَ البحرَ… من غرقٍ إلى غرقِ

   أيّها الراكِبونَ البحرَ… من غرقٍ إلى غرقِ

 مرح إبراهيم *

كم من مرّةٍ وقفنا وقفةَ تأمّلٍ أمامَ زُرقتهِ، شاكرينَ عمقهُ لحملِ أسرارِنا وما يُثقلنا من هموم، فانشرحَ صدرُنا ومضينا… لم نأبه يومًا بما يحملُه هذا العمق من قصصٍ رَحلت مع أرواحِ من ركبوا مغامرينَ “قواربَ الخلاص”، فآل بهِم المطاف إلى قاعِه. قد تكونُ تلكَ الأرواحُ هي مَن تواسينا في وقفاتِ بوحِنا المستجديةِ وتجعلُ همومَنا تتبدّدُ فجأةً، فنمضي…

هؤلاء الذين أُطلقَ عليهم اسمُ “Boat people” بدءًا من العام 1975، هُم من هاجروا عبرَ بحر الصّين الجنوبيَ، من دول شبه الجزيرة الهندية الصينيّة نحوَ أوروبا وشمالِ أميركا، على خلفية صراعات سياسيّة وأوضاع اقتصادية غير مستقرة في بلدانهم. اليوم أصبحَ هذا المصطلحُ يُطلقُ على كلّ المهاجرين عبر البحر، فرارًا من مأساتهم نحوَ شواطئ اللجوء. بيدَ أنّ مصطلحًا آخر أخذ ينتشرُ في شرقنا المُتعبِ، للتعبير عن هذه الظاهرة الحزينة وغالبًا لرثاءِ من رحلوا : قوارب الموت. فكم من قاربٍ غرقَ حاملًا على متنه أناسًا ضاقت بهم السبل، فجازفوا بأرواحهم في سبيل الأمان، في سبيلِ قسطٍ من الكرامة، وشبابٍ ركبَ موجةَ الأملِ الأخيرة ليمسكَ خيطًا من حُلُم. كم من مرّةٍ سافَرتِ البحار ولم تأخذِ السفينة…لم تصل الأحلامُ إلى شواطئ الغرب بقدر ما رقدت في أعماقِ المتوسّط الحزين.

منذ سنواتٍ كانَ آلان الصّغير، وبعده كثيرون ممّن نجهل أسماءهم. واليوم ذاك الطفل الذي يخبئ وجهَه مفترشًا الموج، لكنّه لا يلعبُ معنا لُعبة الاختباء، راح يلوذ في مكانٍ أكثر أمانًا من هنا. وَتلكَ الصبيّة الجميلة التي أكملت دراستها الهندسية وهربت بصحبة زوجها الشاب حالِمينَ بغدٍ أفضل، رحل نصفُ الحُلُم معها، والنّصف الآخر في مكانٍ ما، مع حبيبها المفقود. أمْس، أكثر من مئة وخمسينَ قصة ركبت البحر ولم تخشَ الغرق. ما أَمَرَّ هذا الواقعُ على اليابسةِ كي يكون ركوبُ البحر باكتظاظٍ على قوارب هشة، خيارهم، لا بل مصيرهم الأوحد…. تتكرّر التجربة منذ سنواتٍ ولا يزال شبه الانتحارِ قدَرَ شعوبنا البائسة.

يُمثّلُ مشهد القوارب هذا أكثرَ الصورِ بلاغةً لِمن يرى، أمّا من ينظرُ دون أن يرى، ملتفتًا إلى كماليات الحياة ومدّعيًا التعاطفَ مع المستضعفين من أعلى كرسيّه في بُرجِهِ العاجيِّ، شرقًا وغربًا، فأقول : لا داعي اليومَ لشراء لوحاتٍ باهظة الثمن من معارضٍ عالميّة تصور المأساة البشريّة بسورياليّة، ضمنَ إطارٍ تعلّقونه على جدرانكم.. اكتفوا بالنظر قليلًا نحوَ الأسفل وسترون مشاهدَ ولوحاتٍ ساهمت أيديكم بتشكيلها.

كتبوا أمس ونكتبُ اليوم، وكلّما مرّ الزمن، فقدت الكلمةُ من ثقلها، وضاعتْ جدواها أمام حجم المأساة. فبعضُ الألم يفرّغ الروح من الكلمات. وإذ تتلاشى الحروف، لا يعود البوحُ أمام عمق البحر يشرح الصدر وهو الذي ابتلع أقراننا في غفلة الرحيل، غَفلةِ حلُمهم الحزين من الشرق إلى الغرب. هُم رحلوا حبًّا بالحياةِ ولأنّ الأملَ آخرُ من يموت، فلا توبّخوا أرواحهم بعدما خذلهم الأمل في رحلتهم الأخيرة. ويبقى السؤال دومًا، أينَ الإنسانُ من الإنسان؟ أيكون فعلًا الإنسانُ ذِئبَ الإنسان؟

الكاتبة: د.مرح إبراهيم

باحثة جامعية في اللسانيات ، مقيمة في ألمانيا

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button