الذكاء الاصطناعيّ في خدمة الإبادة الجماعيّة
كيف غيّرت إسرائيل أساليب التجسس والحرب
ترجمة مرح إبراهيم
من الواضحِ أنّ الحكومةَ الإسرائيليّةَ غير قادرةٍ على رؤية جرائم الحرب وأعمال الإبادة الجماعية التي تقترفُها، وسطَ انجرافٍ مسيانيّ أعمى، يتعارض كليًّا مع قيمِ اليهوديّةِ الإنسانيّة. وكأنّ الفلسطينيين أمام فرقة إعدام تبيدُهم بالقنابل والتجويع والعطش والمرض.
بعدما كرّسنا مقالاتٍ طويلة للحلول التي ندافعُ عنها بغيةَ التمهيدِ للسلام الدائم في المنطقة، نقدّمُ بحثًا حول مخاطر الذكاء الاصطناعي. هذا الاكتشاف “الجميل” عالي الخطورة الذي نكادُ نكونُ الوحيدينَ، كحزبٍ سياسيٍّ، الذينَ حذّروا منه. اليوم تأتي الإنذارات من إسرائيل نفسها ومن فرنسا. وهنا أيضا، سوف تشكّل تعبئة المواطنين ضرورة أساسية، لأن وول ستريت راهنت على أرباح الذكاء الاصطناعي في المستقبل إلى درجةٍ لا تسمح لها بالتراجع.
في مقال موثّق بإسهاب، نُشر في صحيفة The Conversation في الـ15 من شباط/فبراير، قدّمت كلُّ من لور دو روسي روشغوند، رئيسة المركز الجيوسياسي للتكنولوجيا في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، وآميلي فيري، رئيسة مختبر أبحاث الدفاع في مركز الأبحاث الأمنية (Sciences Po)، شرحًا أوّليًّا: تستنتجان أنّ اعتمادَ إسرائيل دونَ تحفّظ على الذكاء الاصطناعيَ، سواءً في الاغتيالاتِ المستهدفة (أي كبار قادة حماس وحزب الله) أو في نشرِ الرعب عبرَ الدّمار الشّامل، سوفَ ينتهي بها إلى القضاء على آلاف الأشخاص دون تحقيق أيّ انتصار.
بعض الأرقام تكشف الكثير. ففي نهاية تشرين الثّاني/ نوفمبر، أشارت السّلطات الإسرائيليّة إلى أنّها ضربت في الأيام الـ 35 الأولى من الصّراع في غزة أكثر من 15 ألف هدف، أي ثلاثة أضعاف ما فعلت خلال 51 يومًا من عملية “الجرف الصّامد” عامَ 2014. وبعد بضعة أيام، كشفت المجلة التحقيقيّة الإسرائيلية 972+ عن أسباب هذه الوتيرة المحمومة: استخدام برنامج مزوّد بالذكاء الاصطناعي، ملقّب بـ “هاسبورا” (الإنجيل بالعربيّة)، يعمل “كمصنع أهداف” على مدار 24 ساعة.
في الحقيقة، ليسَ هاسبورا إلّا برنامجًا إضافيًّا بينَ برامجَ عديدة قيد الاستخدام، لاسيّما Alchimist، الذي يسهّل عمليّات الردّ، وDepth of Wisdom، الذي يرسم خرائط مواقع قطاع غزّة وأقبيتها، وأخيرًا Fire Factory، الذي يولّد خطط ضرب في الوقت الفعلي بواسطة الطائرات والمسيّرات، حسب نوع الهدف. بفضل هذه التقنيات المتقدمة، أصبح الجيش الإسرائيلي الآن قادرًا على ضرب عدة مئات من الأهداف يوميًا، كما يقول إيفال آبراهام، كاتب تحقيق مجلّة 972+.
القتل الجماعيّ، استراتيجيّة عسكريّة.
تواجه الحكومة الإسرائيلية معضلةَ كيفيّة استهداف حماس بشكل فعّال وإنقاذ الرهائن في آن. منذ الانتفاضة الثانية (2000-2005)، ينتهج جيش الدفاع الإسرائيلي طريقين في استخدام القوّة. يتمثّلُ الأوّل بـ”الاغتيالات المستهدفة” ضد كبار مسؤولي عدوّه. أمّا الثّاني، فيُعرف باسم “عقيدة الضاحية”، وهي عقيدة عسكرية صاغها الجنرال الإسرائيلي غادي آيزنكوت (عضو مجلس الدفاع الحالي)، تتعلّقُ بسياق الحرب غير المتكافئة في البيئات الحضريّة وتدعو إلى استخدام القوّة “غير المتناسب” في المناطق الحضريّة، خلال العمليّات الانتقاميّة ضد المناطق المدنيّة التي تُستخدم كقاعدة هجمات، بهدف الرّدع. ممّا يعني ضرب المبدأ الأساسي لقانون الحرب والقانون الدوليّ الإنسانيّ بعرض الحائط، بعدم التمييز بين الأهداف المدنيّة والعسكرية.
واليوم، يسعى جيش الدّفاع الإسرائيليّ إلى تصفية القادة العسكريين الأربعة لحركة حماس: يحيى السنوار، وشقيقه محمد، وأبو عبيدة، ومحمد ضيف. وفي ظلّ عجز الجيش الإسرائيليّ عن تحديد مواقعهم والقضاء عليهم وغيابِ نصرِه، يعكسُ هزيمته بتكثيف عملياته الانتقاميّة غير المتناسبة.
كما أشارت كلّ من الباحثتان من معهد العلوم السياسية، فإن المُنذِر الإسرائيلي يدين “”سياسة الأرقام” التي تنجمُ عنها هذه القدرة على تحديد مئات الأهداف كل يوم. يشير إلى أن الجنود الذين حقّقَ معهم يعتقدون أنه “يُحكم عليهم على أساس كمية الأهداف التي تمكنوا من تحديدها، وليسَ على أساس صفتها”، بهدف خلق تأثير صدمة لدى سكان غزة”.
إن استخدام خوارزميات الذّكاء الاصطناعي علنًا ودون أيّ رادعٍ أخلاقيّ، يكشف عن الطابع الهمجيّ لدى المحاربين الإسرائيليين. حتى الآن، كانَ ثمّةَ غموض حول عدد الضحايا الجانبيين الذي أحاط بالاغتيالات المستهدفة، لكنّ الحال قد تغيّرت. يدركُ الجيش الإسرائيلي، بواسطة خوارزمية هاسبورا، بدقة عدد النّساء والأطفال والمسنّين الموجودين في المبنى الذي يأوي هدفَه.
يفيد تقرير 972+ أنّه إذا كانَ مقبولًا، حتى 7 تشرين الأول/ أكتوبر ، بلوغ حوالي عشرة ضحايا جانبيين للقضاء على عضو تنفيذي في حماس، فبات الآن من المقبول مقتل أكثر من مئة مدنيّ في إطار “تحييد” عضو تابع لحماس. ممّا يفسّر تدمير مباني بأكملها لإسقاط هدف واحد، كما حدثَ إثر الغارة على مخيم جباليا للاجئين في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتي استهدفت قائدًا واحدًا فقط من قادة هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، مسفرةً عن مقتل 126 شخصًا، وفقَ مجموعة Airwars. إن اللجوء إلى التكنولوجيا المتقدمة لا يؤدي تلقائيًّا إلى حربٍ “أنظف”: فهنا، تُستخدم الخوارزميات، لا للحد من الأضرار الجانبية، بل لتكثيف الضربات، مع نسبة عالية جدًا من الضّحايا المدنيّين، وذلك عن سابقِ علمٍ وإدراك. ويبدو أن استخدامَ المسيّرات القاتلة، فضلاً عن الذكاء الاصطناعي كواجهة تكنولوجية للاستهداف الآليّ، يوسّعُ الهوّةَ العاطفيّة التي تفصل بين القنّاصِ وضحاياه.
وكأنّنا في لعبةٍ إلكترونيّة تصوّرُ عصرَ التّضحيات البشرية، “الثّمنُ” الذي على الكفّارُ دفعهُ لإرضاء الآلهة…أمّا هنا، فلا يكفي كبس زرّ “الإعادة” لإحياء الموتى.