الأم الاسرائيلية التي فضحت الكراهية في المدارس
الأم الاسرائيلية التي فضحت الكراهية في المدارس
روزيت الفار- عمّان
البروفيسورة Nurit Peled Elhanan نوريت الحنان هي أمّ الشّابّة سمادار، إحدى الفتيات الإسرائيليّات الثّلاث اللّواتي قضينَ في عملية استشهاديّة نفّذها ثلاثة من المقاومين الفلسطينيين بمركز تسوّق بالقدس عام 1997 كان الهدف منها إجبار الاحتلال على الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين.
لم تكن ردّة فعل نوريت كبقيّة الأمّهات المكلومات؛ بالصّراخ والتّوعّد بالثّأر والدّعوة للانتقام، بل رأت بأنَّ التّفجير جاء كردٍّ مُتَوقّع على ممارسات إسرائيل التّعسّفيّة بحقّ الفلسطينيين. وفي تعليقها الأوّل للصّحافة، والّذي نشرته لوس أنجلوس تايمز بعنوان “أمٌّ تلوم سياسات إسرائيل على موت ابنتها”، قالت نوريت: “هذا هو حصاد ما زرعته إسرائيل”. فالمآسي، لدى البروفيسور أفراهام دسكن، زميل نوريت بجامعة القدس، “إمّا أن تقوّي إيمان الفرد بمواقفه وقناعاته المُسبقة، كما بحالة زميلته، أو أن تجعله يكفر بها.”
ورثت نوريت النّزعة الفكريّة الّتي تعترف بحقوق الإنسان؛ من والدها ماتي بيليد، الجنرال العسكري الإسرائيلي الّذي تحوّل ليصبح مشرّعاً قانونيّاً مناصراً لحقوق الإنسان، وتحديداً، الفلسطيني. الأمر الّذي عرّضه وعرّض ابنته لاحقاً لاتّهامات، أهمّها، معاداة الصّهيونيّة.
استطاعت نوريت، وبعد 4 سنوات من حادثة التّفجير ووفاة ابنتها، وبالرّغم من كلّ التّهم الموجّهة ضدَّها، الحصول على جائزة “ساخروف” الأوروبيّة لحقوق الإنسان؛ مناصفة مع المفكّر والنّاشط الفلسطيني الّذي اعتُقل لعدّة مرّات من قبل سلطات الاحتلال، عزّت الغزّاوي وتُوفّي بعدها بسنتين فقط.
جعلت نوريت واقعة التّفجير منطلقاً للبحث عن أسبابها الرّئيسة، والّتي لخّصتها بسبب وجملة واحدة، هي: “النّظام التّعليمي وما يُنشأ عليه الأطفال في “واحة الدّيموقراطيّة” وتعني (إسرائيل) والّذي يحوّلهم لاحقاً “لوحوش” ،حسب تعبيرها.
نشأت نوريت ببيئة طبيعيّة متصالحة مع محيطها الفلسطيني في القدس من جيران وأصدقاء؛ والّذي لم تشعر يوماً به بأيِّ سبب للكراهيّة نحوهم. عزّز ذلك الشّعور، معرفتها الأكيدة بحقيقة النّكبة وقيام دولة إسرائيل ورؤية الأمور على ما هي عليه؛ خصوصاً، بعد دراستها الطّويلة وتعمّقها في فقه اللّغة ودراسة العلامات والرّموز Semiotics الّتي أنتجت كتابَها الأوّل بعنوان، “فلسطين في كتب التّعليم الإسرائيليّة”. أضف لتلك الأسباب، عدم قناعتها بالنّهج الّذي وضعته وتطبّقه حكومتها والأوصاف والتّعابير المسيئة بالعرب، وبالذّات الفلسطينيين، الّتي تناولتهم ككائنات يحبّون التّفجير والعيش في مياه المجاري.
في سردها لرواية التّعليم الإسرائيليّة، ركّزت نوريت بكتابها المذكور، على طريقتين تتّبعهما إسرائيل في عمليّة تعليم الأطفال وتؤدّيا الغاية ذاتها؛ وهي زرع الكراهيّة بعقولهم نحو الفلسطينيّين.
الطّريقة الأولى: حقيقيّة، وهي الّتي تخبرك ما يتم تعليمه بالفعل لأطفال الاحتلال في المراحل التّأسيسيّة، والّتي تصف الفلسطينيين بالمجرمين البدائيين الّذين يعشقون القتل وبالتّالي يجب قتلهم والتّخلّص منهم.
والثّانية: ما أخبرنا به حديثاً إيلون ليفي المتحدّث الرّسمي باسم حكومة الاحتلال. ففي لقاءٍ له مع الإعلامي الشّهير بيرس مورغان، أتى وصفه للفلسطينيين تحقيري تحريضي يمنح الإسرائيلي وأفراد جيشه حقّ القيام بما نشهده من ممارسات وحشيّة وإجرام في حربهم القائمة على غزّة عِبر أكاذيبه وتلويثه لسمعة الفلسطينيين أمام كلِّ مَن شاهد الّلقاء وسمعه.
*ركّز ليفي بحديثه على ضرورة استئصال النّزعة الأصوليّة وشرّع عمليّة القضاء على ما سمّاه “النّشأة الجهاديّة الاستشهاديّة” لشباب غزّة”، واستخدام جميع أساليب القتل والتّدمير؛ بحجّة “الدّفاع عن النّفس”.
وبحكم جنسيّتها وموقعها الوظيفي وطبيعة عملها وطول مدّته، نجحت نوريت في الحصول على معلومات دقيقة تخصّ الحالة ودراستها، شرحت تفاصيلها بالكتاب عبر دراسة نقديّة محايدة، وناقشتها مؤخّراً، مع النّاشط الأسترالي المُحبّ للسّلام -كما وصف نفسه- والمناصر للقضيّة الفلسطينية روبرت مارتن، كاشفةً عن أنَّ ما يدّعيه الاحتلال ويعتبره أهمَّ أركانه وهو”أنَّ الفلسطينيّين يعلّمون أبناءَهم الكراهية والحرب بينما يعلّم الإسرائيليّون أطفالهم الحبَّ والسَّلام”، ما هو إلّا محض ادّعاء مزيّف ومعكوس ولا يمتُّ للحقيقة بأيّة صلة. لا لشيء؛ كما قالت، بل لعدم قدرة الفلسطينيّين فعل ذلك لكونهم محاصرين وتخضع جميع مناهجهم التّعليميّة لرقابة وإشراف الاتّحاد الأوروبّي والجيش الإسرائيلي بشكل تام، فلا يمكنهم مجرّد إدراج تاريخهم كشعب في مناهجهم؛ فكيف لهم أن يضمّنوها فصول كراهية لإسرائيل؟
من استراتيجيّات المُحتلّ وخططه المعقّدة، محو هويّة الفلسطينيّين وإزالة تاريخهم من الذّاكرة الجمعيّة. كيف؟
تزيل إسرائيل حوالي نصف صفحات الكتب المدرسيّة الخاصّة بالفلسطينيّين بعد مرورها عبر الرّقابة، حيث يتمّ إزالة كلّ ذكر للنّكبة وللّاجئين لكون ذلك يعني حقّ العودة، وكذلك أيِّ ذكر للجذور التّاريخيّة للوضع القائم بما في ذلك الحضارة الإسلاميّة والإسلام بعد القرن ال 19. وطبقاً للمناهج التّعليميّة الإسرائيليّة، فالمسلمون “توقّفوا عن الوجود بعد العام 1700”. كما وأنَّ المنهج المفروض على الطّلبة الفلسطينيّين هو ذاته المقرّر للأطفال الإسرائيليّين مترجماً للعربيّة. فعلى الطّفل الفلسطيني أن يتعلّم عن نشأة إسرائيل والمشروع الصّهيوني وعن المستوطنات كبناء شرعي يملكه المستوطنون.
ومن زاوية أكثر أهمّيّة، يبني الاحتلال مناهجه على “مبادئ” يتلقّفها الأطفال منذ سن الثّالثة، هي -كما ذكرها الكتاب- “فلسفة أو مبدأ الآخرOthering”. فالفلسطيني بالنّسبة لهم مجرّد “الآخر” المُجهّل الّذي ليس له أصل أو ملامح أو دوافع أو طموحات تجعله إنساناً طبيعيّاً، فهو صورة للمزارع أو لأحد الجحافل البدائيّة الّتي جاءَت من الخارج وأقامت ضمن مجموعة ديموغرافيّة قليلة العدد لا تملك هويّة ولا أرض ولا تاريخ وأفرادها ليسوا كغيرهم من الإسرائيليّين الّذين تجد بينهم علماء ومفكّرين وشعراء ومهندسين وأطبّاء وتجّار.
هذا التّثقيف يتّخذ تطبيقاً حرفيّاً في الكتب الإسرائيليّة حيث لا يمكنك إيجاد صورة طبيعيّة للفلسطيني بل يعبّروا عنه بصور مرسومة تظهره من الخلف وبلا وجه، ويستخدمون للتّعبير عنه؛ صوراً نوعيّة عموميّة generic منزوعة الإنسانيّة لا روح فيها. والطّفل الإسرائيلي أثناء تلك المرحلة، لا مرجع آخر له يعرّفُهُ بالفلسطيني سوى هذه الكتب وتلك الصّور.
هذا يفسّر ما يقوم به الاحتلال منذ نشأته وخصوصاً في حربه القائمة الآن على غزّة من تدمير مُتعمّد للتّاريخ والهويّة والإرث الفلسطيني بقصفه وتدميره لجميع جامعات غزّة الإثني عشر و لِ80% من مدارسها ومؤسّساتها ومعاهدها التّعليميّة، والكثير الكثير من الأكاديميّين والأطبّاء وأصحاب الفكر والعلم الغزّيين باعتبارهم أدوات المعرفة والثّقافة الّتي تُظهر الخلفيّة التّاريخيّة والهويّة الخاصّة بالشّعب الفلسطيني.
فالفلسطيني بنظرهم، “مشكلة”، على الإسرائيلي التّخلّص منها بأيِّ شكل. دون علم هذا الإسرائيلي بأنّه هو الّذي كان “مشكلة” الغرب العظمى ذات يوم، ولهذا تمّ ترحيله إلى فلسطين والتّخلّص منه.
ناهيك عن عدم وجود أيّ ذكر للفلسطينيّين على الخرائط الإسرائيليّة. بل يعتبروهم مجرّد أعداد لا ينتسبون لأيِّ من المدن أو القرى. فحتّى الجانب الشّرقي من القدس -والّذي من المفروض أن يكون ضمن الأراضي الفلسطينيّة-، يظهر على خرائطهم فارغاً.
وهكذا، يُظهر الكتاب أنّ الكتب المدرسيّة الإسرائيليّة تستخدم خطاباً عنصريًّا لفظيّاً وبصريّاً لتمثيل الفلسطينيّين لتغرس الكراهيّة بعقول الأطفال. وهذا ما يفسّر الكمّ الهائل من العنف والتّوحّش المُمارس بحقّهم كونهم المخلوقات الشّرّيرة المُحبّة للعنف والرّافضة للسّلام. فيكفي أن تكون فلسطيني ليتمّ قتلك واحتلال أرضك وسرقة بيتك وممتلكاتك واستخدامها لصالح توسيع “دولتهم الدّيموقراطيّة”، إذ أنّها بحاجة للأرض والأمن. الأمر الّذي يعتبرونه التزاماً بالفكر الصّهيوني وبمبادئه وحقٌّاً شرعيّاً لهم يمارسونه بدم بارد ودون أيّ شعور بالذّنب.
لا تقتصر الوظيفة الأساسيّة للكتب الإسرائيليّة فقط على زرع الكراهيّة وإنكار الحقّ الفلسطيني بأرضه وتجهيل طلبتها بحقيقة القضيّة الفلسطينيّة من خلال الأيديولوجيا والدّعاية في التّعليم، بل إنتاج رواية خاصّة بهم، يمكن أن تربط أطفالهم بأصولهم في أرضٍ ما يسمّوها “إسرائيل”.