أين تذهب أصوات المسلمين والعرب الأميركيين في الانتخابات بعد غزة
أين تذهب أصوات المسلمين والعرب الأميركيين في الانتخابات بعد غزة؟
الكاتب :يونس أبو أيوب*
ترجمة:مرح إبراهيم
يخرجُ المواطنون الأميركيون منذ أشهرٍ إلى الشوارع، فيستنكِرون الإبادة الجماعيّةَ المستمرّةَ التي تقترفُها إسرائيلُ ضدَّ الفلسطينيين. حيث دعا الملايين منهم، اعتراضًا على الدّعم المالي الذي لا ينضب لإسرائيل، من جيوب دافعي الضرائب، ممثّليهم في الانتخابات التمهيديّة الرئاسيّة للتعبيرِ عن معارضتِهم لهذه السّياسة. يعسكرُ الطلّاب الأميركيون في حرمِ الجامعات مطالبينَ مسؤوليها بسحب استثماراتها من الشركات التي تستغِلّ الصراع، أو تجني أرباحاً من الصناعات المرتبطة به. أمّا الجالية المسلمة، التي طالما عانت التّهميشَ والكبت، فتزدادُ الآنَ قوّةً، وهي الجالية التي لم تكُفَّ يومًا عن التعبئة من أجلِ القضيّةِ الفلسطينيّة، التي بقيت حتّى فترةٍ قريبة محلَّ نبذٍ سياسيّ.
على الرّغمِ من أنَّ المسلمين، ذَوي الأغلبية غير العربية، لا يمثلون سوى ما يقرُب 1% من الشّعب الأميركيّ، إلّا أنّهم يضطلِعون اليوم بدورٍ يزداد أهميَّةً في الفضاء العام. فقد بيّن استطلاعٌ أجريَ قبل الانتخابات الرئاسية في العام 2020، أنَّ 39% من المسلمين أيّدوا المرشّح بيرني ساندرز لرئاسة الولايات المتحدة، يليه نائب الرّئيس السّابق جو بايدن. وفي التجمّعات الحزبية التي عُقدت عبر الأقمار الاصطناعية في مساجد ولاية أيوا، دعمت الغالبيّة العظمى من المسلمين الحاضرين بيرني ساندرز، الذي تلقّى، على الرغم من تضاؤل فُرَصِه، دعمًا ومساندةً هائلين من الجالية المسلمة في ميشيغان. لكنّ جو بايدن هو الذّي فاز في نهاية المطاف. أمّا اليوم، وفي ظلّ حملة الإبادة الجماعية المستمرّة في قطاع غزّةَ، ومع الدّعم غير المشروط الذي يقدّمه الرّئيس بايدن لإسرائيل، فقد انقلبت المعادلة.
حقّقت الجاليةُ المسلمةُ الأمريكيّة، خلال السّنوات الأخيرة، تقدّمًا مطردًا من حيث التّمثيل السياسيّ على المستويَين المحليّ والفدراليّ كما على مستوى الولايات، حيث حاز مرشّحون مسلمون على مقاعدَ، من المجالس البلديّة حتّى الكونجرس، ممّا ساعدهم على إيصال أصواتهم. إذاً يشهدُ عمل المسلمينَ السياسيّ في الولايات المتحدة تطوّرًا ملحوظاً، وإنْ كان لا يزال موجّهًا نحو سياسة “الوطن الأم”. يشكّلُ المسلمون ذوو الأصول الشرق أوسطيّة أو الآسيويّة الجنوبيّة أغلبيةَ السكّان المسلمين الأمريكيين، وقد أسّس أبناؤها وأداروا المنظماتِ المدنيّة المسلمة الوطنية الأكثر نفوذاً. ثُمّ إنّ الجماعات المسلمة الأمريكية متنوعٌة عرقيًّا، وقد شَهِدت مرحلتين تاريخيّتين فاصِلَتَين (المكوّن العربيّ فيها خاصّةً)، في تشكيل هويتها السياسيّة؛ تتمثّلُ الأولى بالحربِ العالميّة الأولى، ولاحقاً بالصراع العربيّ ـ الإسرائيليّ عامَ 1967.
ظهرت مشاركة المسلمين في السياسةِ، أساساً لا حصراً، في ستينيّات القرن الماضي، ثمّ تطوّرت في الثمانينيّات، والعرب بوجهٍ خاصّ، مع تشكيل مؤسسات عرقيّة مختلفة وحملة جيسي جاكسون الرئاسية. ومع ذلك، لا يزالون يعانونَ اليوم من مشكلاتٍ كثيرة، بما في ذلك الصّور النمطيّة السلبيّة، المنتشرة حتى الآن على نطاق واسع في الثّقافة الأمريكيّة، إذ تميّزُ العربيّ المسلمَ جذريًّا من حيث إنّه “الآخر”. زِدْ على هذا نقْصَ الموارد الماليّة، والتنوّعَ العرقيّ والأصول القوميّة داخل المجتمع، وضعف التّصويت الجماعي، والعدو القويّ الذي يُجسِّده اللوبي الإسرائيلي، المعروف بدقّة تنظيمه، وفائض تمويله، وقبل كل شيء، التنافر مع توجّهات السياسة الخارجيّة الأمريكيّة في الشرق الأوسط، والذي يتجلّى اليوم في ظلّ سياسة واشنطن التي تدعم العدوانَ الإسرائيليّ الشرسَ على قطاع غزّةّ دون قيدٍ أو شَرط .
ومع ذلك، حقّقَ المسلمونَ الأمريكيون تقدّمًا ملحوظًا في المجال السياسيّ، حيث أصبحوا الآن مجتمعًا أكبر. وقد مهّد الطريقَ ساسةٌ مسلمون، مثلَ كيث إليسون، أوّلُ مسلم يشغلُ مقعدًا في الكونجرس، وهو يتبوّأ حاليّاً منصب المدّعي العام في ولاية مينيسوتا. أمّا أندريه كارسون، عضو الكونجرس عن ولاية إنديانا، فكان دوره حاسمًا أيضاً. كما دخلت كلٌّ من إلهان عمر (مينيسوتا) ورشيدة طليب (ميشيغان) التاريخ َوكانتا أول امرأتين تصِلان إلى مجلس النواب. وقد حاكى بروزَهما جيلٌ جديدٌ من المرشّحين المسلمين من خلال الإقبالِ على الترشّح للمناصب. تعبّر نبيلة إسلام، وهي أمريكية من أصل بنغلادشي، عن هذا التطوّر. كانت أوّل امرأة مسلمة من جنوب آسيا تُنتخب لعضويّة مجلسِ شيوخِ ولايةِ جورجيا. لذلك شكّلَ فوزُها دليلًا ملموسًا على استعداد النّاخبين لدعم مرشّحينَ يُمثِّلون هويَّاتهم ويعكسون تجاربَهم. وبِحسَب دراسةٍ حديثةٍ أجراها مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR) ومنظّمةُ Jetpac، وهي منظّمةٌ غير حكوميّة غايتُها زيادة تمثيل المسلمين الأمريكيين سياسيًّا، فقد فاز المسلمونَ بما لا يقل عن 83 مقعدًا على المستوى الوطنيّ في انتخابات التّجديد النصفيّ لعام 2021. وهكذا، من المجالس البلديّة إلى الكونجرس، يزدادُ عدد مقاعد المرشّحين المسلمين، فينجحون في إيصال أصواتهم. يقدّر عددها بـ 71 مقعدًا في عام 2020. ينتمي هؤلاء المنتخَبون الجدد إلى أصول عرقية متنوّعة، بما في ذلك الصوماليّون والباكستانيّون والأفغان والهنود والعرب، من بينهم فلسطينيّون.
على الرغم من المسافة التّي يتّخِذها الناخبون المسلمون مع إدارة بايدن، فهم ليسَوا من مؤيديّ دونالد ترامب. في إطار استطلاعٍ أجري عام 2016، تبيّنَ أن عدداً لا يُستهانُ بهِ من الأمريكيين الذين يعرّفون أنفسهم على أنّهم مسلمون أو عرب، ينظرون نظرة سلبيّة إلى سياسة الحزب الديموقراطيّ، منذ عهد باراك أوباما، وفقًا لما ذكرته شركة زغبي إنترناشيونال Zogby International. انتقد كثيرون موقف أوباما من الرّبيع العربي، ودعمَه المستمرّ لمختلف الشموليّين العرب، وتقاعسَه عن سوريا، كما ذكرَ البعض، وسياسة الاغتيالات الممنهجة بواسطة المسيّرات، وانحيازَه لإسرائيل، وإخفاقه في وضع حدّ لحرب أفغانستان وإغلاق معتقل غوانتانامو، كما وعدَ خلال حملتهِ الانتخابيّة. ولئن أظهرَتْ إدارة ترامب ازدراءَها المسلمينَ والشعبَ الفلسطيني، فمن الخطأ الاعتقاد بأن أوباما قد سعى أكثر من أجل دعم الفلسطينيين. وبهذا الصدد، كتب خالد الجندي، الأكاديميّ المصريّ الأمريكيّ ومستشار حملة السيناتور إليزابيث وارن: “على الرّغم من النظرة السائدة عن أوباما، أنه أكثر حساسيّةَ تجاه المظالم الفلسطينية وأقل عاطفةً تجاه إسرائيل، إلا أنّه كان أقلّ استعدادًا من معظم أسلافه للضغط على إسرائيل أو دعم القادة الفلسطينيين في عمليّةِ السّلام”.
أمّا من حيث الرّوح السياسية، فتدعم الأغلبيَّةُ السّاحقة من المسلمينَ الأمريكيين حقوقَ الفلسطينيين وتُعارِض سياسات إسرائيل القمعيّة في الأراضي المحتلّة، على الرغم من تباينِ آرائها في الحلّ السياسي، أيّ إقامة الدّولتين. كان تأييد فلسطين علنًا، طيلة عقود من الزمن، من المحرمات التي تُعيق الحياة المهنية في كلا الحزبين. لكن الأحوال تغيّرت الآن، إذ أصبح الشباب الأميركيّ، بما في ذلك اليهود منهم، أكثر وعياً بأسس السياسة الخارجية الأميركية، لا سيّما في العالم العربيّ الإسلام. كما أنّ المسلمين، على غرار الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية واليهود، ينتمون إلى الديمقراطيين بأغلبية ساحقة، نظرًا للتفاوت الطبقي الذي لا ينبغي تجاهُله.
أمّا مشاركة المسلمين في التصويت، فتشهد تصاعداً ملحوظاً. ففي الانتخابات الرئاسية عامَ 2020، أدلى أكثر من 1.1 مليون مسلم أمريكي بأصواتهم، أي 71% من الناخبين المسلمين المسجّلين على قوائم المُنتخِبين. كان معدّلُ المشاركة أعلى بنقُطتَين مما كان عليه في العام 2016. كذلك تحثُّ منظّمات، كمنظّمة Emgage، وهي مجموعة مدنيّة أمريكيّة مسلمة، المسلمينَ على المُشاركة في الحياة السياسيّة. وبالتّالي، على الأمريكيين المسلمين أن يشكّلوا تحالفاتٍ سياسيّة مع أقليّاتٍ عرقيّة فاعلة أخرى، كاللاتين أو الأمريكيين من أصول أفريقيّة، بُغية التمكُّن من الدفاع عن القضايا التي تهمّهم. قد تمثّلُ تعبئة الطلبة الأميركيين المتزايدة لصالح فلسطين منذ أسابيع، احتجاجاً على المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، لحظةً تاريخيّة ًومحفّزًا لمثل هذه التحالفات على السّاحة السياسية الأميركية، محليًّا وفدراليًّا. أما في انتخابات عام 2024، فسوفَ يُقاطِعُ المسلمون جو لبايدن. “إلّا إذا تحوّل إلى يسوع المسيح وبعثَ الفلسطينيين من الموت، لن ندعمه، لقد انتهى الأمر”، أعلن أسامة السبلاني، الصحفيّ الأميركي من أصلٍ لبناني. وبِحسب تقديرات المعهد العربي الأميركي، دعمَ حوالي 59% من الناخبين المسلمين والعرب الأميركيين جو بايدن في العام 2020. أمّا اليوم فتشهد هذه النسبة سقوطًا حُرًّا.
ما يزال تصويت المسلمين في الولايات المتّحدة ظاهرةً في طور التكوّن. لكنّها دائمةُ النموّ والتطوّر، مع التغيّرات السُكّانيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وأمّا الملحوظ إلى حدٍ كبير، فهو توافقٌ يشرعُ في الارتسام بوضوحٍ، في ما يخصُّ سياسةَ أمريكا الخارجيّة، بين النّاخبين العرب، بأكثريّتهم المسيحيّة، والمسلمين. وكأنّ كتلةً جديدة تتشكّلُ، وتتعاظَم، على تنوّعها، لتشغل حيّزًا أكبرَ على السّاحة السياسيّة. ليس من المحتّمِ أن تمثّلَ حرب الشرق الأوسط نقطةً حاسمةً في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، ولكن، مع استمرار المسلمين في كسرِ الحواجز والدعوة إلى التغيير، سوف يُمساهمُ النّاخبون المسلمون، من دون شكّ، في رسمِ مستقبل الولايات المتحدة.
دكتور في علم الاجتماع السياسي ومستشارٌ دوليّ في الأمم المتحدةباحث ومحاضر زائر، قسم العلوم السياسية، جامعة نيو إنجلاند، الولايات المتحدة الأمريكية.