من ربيعِ هامباخ إلى ربيع العرب
من ربيعِ هامباخ إلى ربيع العرب
مرح إبراهيم-المانيا
على طريق النّبيذ، في ولايةِ Rheinland Pfalz الألمانيّة، تقعُ مدينةُNeustadt an der Weinstraße : البلدةُ الجديدة على طريق النّبيذ، ذاتُ الطّبيعةِ الجبليّةِ السّاحرة والطّابعِ العريق، إذ لا تزال أزقّتها القديمة تحملُ روحَ تاريخٍ سبقَ الحربَ العالميّة الثّانية، التي سلبَت الكثيرَ من معالم العراقةِ في البلاد. مِن أعلى جبل Schlossberg، يُرفرفُ العلم ثلاثيّ الألوان فوق رمزٍ من رموزِ المنطقة : قصرُ هامباخ Hambach، مهدُ الديموقراطيّة الألمانيّة.
تعودُ رمزيّة هذا القصر إلى العام 1832. كانت المنطقةُ آنذاك تحت إِدارة مملكة بافاريا التي استعادت هذه الأراضي عقبَ سقوط نابليون ومؤتمر فيينا. في نهاية شهرِ أيّار من ذلك العام، خرجت حركةُ احتجاجٍ ضمَّت 30 ألف شخصٍ من الديموقراطيّين والثّوريّين المطالبين بوحدة ألمانيا، وبمزيدٍ من الحريّة. كانت تلكَ المرّة الأولى التي يُرفع فيها العلم الأسود ـ الأحمرـ الذهبيّ بهذا العدد. أدّت الحركةُ هذه إلى ما سُمّيَ بعدها بـ”عيد هامباخ”.
في العام 2022، احتفلت المدينةُ باليوبيل الـ190 لمهرجان هامباخ، بين 27 و30 أيّار، حيثُ شهدت مسيرةً كبيرةً بين القصر والأحياء القديمة، تحملُ شعار الشجاعة من أجل الحرّية أو الجرأة على الحريّة. تخلّل المسيرةَ مظاهرةٌ مضادّة ضمّت مواطنينَ من مختلف الأطياف، التي تُعتبر معاديةً للديمقراطية، مِن المحافظين والمتطرّفين والنازيين الجدد، أدّت إلى بعض الاشتباكات. هذا العام، أُغلق القصر خلال المناسبة لأسبابٍ أمنيّة وتفاديًا للتجاوزات، إذ نُّظم يومُ الأحدِ تجمّعٌ سياسيّ ملأ الشوارعَ وتخلّله بعضُ المحتجّين، لكنّه هذه المرّة بقي سلميًّا، كما وصفَهُ عناصرُ الشّرطة.
مَن يحتفي بالديمقراطيّة سنويًّا يبدو حارسًا لهذا المهد وحريصًا على أُسسه : منذ بضعة سنوات، خرج بعضهم محتجًّا على استخدام حزب AfD (البديل من أجل ألمانيا) لرمزيّة القصر ونشره دعاياتٍ للحزبِ بقربه، وهو حزبٌ ينتمي إلى اليمين المتطرّف ويُعدّ شديد الراديكاليّة. اعتبرَ المحتجّون أنه حزبٌ لا يمتّ لقيم الديموقراطية بصلة، بالرّغم من انتخابه ديمقراطيًّا، وأن ذلك يخدشُ رمزيّة الصّرح.
سلطةُ الشّعب وسيادته : المعنى الحرفيّ لمصطلح الديمقراطيّة، هذا المفهومُ النّاعم والشائك في آن. فهل تتجلّى الديمقراطيّة بتعريفها الحرفيّ حقًّا، أم أنها عبارةٌ عن هوامش حريّةٍ تتفاوتُ نسبيًّا بين بلدٍ وآخر؟ أم هيَ محاولاتٌ محبوكةٌ للابتعادِ قدر المستطاع عن غياهب الديكتاتوريّة بغية اكتساب الشّرعيّة؟
في الوقت الذي كانَ الألمان يحتفون خلالهُ برمزهم الديمقراطيّ، كان العالمُ يراقبُ نتيجة الجولةِ الثّانية من الانتخابات التركيّة، مسلطًا الضوءَ على تحقّق الديمقراطيّة في حاضرِ الدّولة العليّة، إذ تُعدّ الانتخاباتُ التعبيرَ الأقوى عنها، وهيَ غالبًا ما تقوم على قوّة تسويق الحملات والوعود المناسبةِ للشريحةِ المناسبة، بأساليبَ ودهاليز واستغلالٍ لثغراتِ القانون، يكون المنافسُ خلالها دومًا محلّ إدانة. ليسَ مهمًّا أن نعرفَ ما إذا كان تجلّي الديمقراطيّة في صناديقِ الاقتراعِ تجليًّا حرًّا أم موجّهًا بالتواء، فمن يُدلي بصوته هُوَ المسؤولُ الوحيد عن اختياره. وفي نهاية المطاف، تقاسُ الأعمالُ بنتائجها، والغايةُ تبرّر الوسيلة.
هي قيمٌ تندرج ضمنَ المفاهيم الأخلاقيّة من حيث بديهيّة شرعيّتها ووجوبِ تطبيقها، وباسمها أيضًا تُشنّ الحروبُ وتسلبُ الثّروات. نعم، ففي هذه الأيّام الربيعيّة التي تُكلِّل الديمقراطيّة الغربيّة، لا يمكن لذاكرة العربيّ المتأمّل لعلو قصر هامباخ ألا تعودَ به إلى ربيع وطنه، الرّبيعُ العربيّ : هذه العبارةُ الرنّانة، بصورتها المزدهرة والواعدة بمستقبل مثمر، التي ما إن بدأت تنتشرُ حتى قابلتها عباراتٌ مضادّة تعكسُ صورَ العواصفِ والدّم والدّمار. لا يزال العربيّ يتساءلُ، كم من مواطنٍ خرج حبًّا بأرضه، فأراد أن يكون وجهًا من أوجه ربيعها، وكم من شخصٍ أتى ليكون شتاءً عاصفًا يلبس ثوب الرّبيع. هوَ المحبطُ منذ الأزل من مشيئة القدر في هذه البقعة من العالم، التي كلّما رأت بصيصَ أملٍ، أتى من يطفئه من جديد. يتساءلُ العربيّ، هل يحتفلُ يومًا وطنه بربيعٍ عربيّ متأصّل الجذور؟ فمن خانَ الرّبيعَ هو مَن ادّعى تصديرَ قيم الديمقراطيّة من أجل الخلاص. خانَ الرّبيع مَن أرادُه ربيعًا بالوكالة، والرّبيعُ لا يثمر إلّا بمناخ أرضه ومياهها، بقوّة الطّبيعة وتعاقبِ الفصول، بأخذ العبرة من كلّ عاصفةٍ هبّت بالذاكرة كي تسعى بنفسها لمستقبلٍ أزهى.