سامي كليب : الجيوش الالكترونية تغتال قضاياها.
بعيد فترة على ثورة شبكات التواصل الاجتماعي، اخترعت المحاور المتصارعة وسيلة اعتبرتها “عظيمة” لتحطيم الخصم، أسمها ” الجيش الالكتروني”. تعتمد هذه الجيوش الافتراضية على التكنولوجيا الحديثة التي لا تعرف بطبيعة الحال شيئا عن اسرارها، وتشنّ حملاتٍ من الشتائم والتخوين والتوصيفات التي غالبا ما تكون خالية من أي بعد أخلاقي ضد كل من يعارضها، حتى ولو كان المُعترض يقول مُجرّد رأي عادي.
في إحدى المرّات مثلا، شنّ أحد المتشدّدين هجوما كاسحا، عبر تويتر، على كل ما هو غربي ودعا للعودة الى الأصالة في الملبوس واللغة والعادات والتقاليد والتوقف عن التقليد الأعمى للغرب أو الاعتماد على وسائله، فأجابه شابٌ يدرس في بلجيكا بجملة واحدة قائلا:” كنّا سنُلبّي فورا دعوتك لو أنك لم تعتمد على وسيلة توتير الغربية، ولو أنك لم تُرسل لنا عبر الأنترنيت الغربي خطابك، ولو أنك لم تستخدم الأقمار الصناعية والكابلات الغربية للتواصل، وأعِدُك بأنك لو أرسلت لي طلبك عبر الحمام الزاجل أو على ظهر جمل فسوف أكون أول المستجيبين لندائك العظيم”.
وقد اكتشف السياسيون والأحزاب والتيارات وأصحاب الشركات والمصارف والمافيات والعصابات ورجال الدين وحتى وسائل الاعلام، أهمية ” جيوش الشتائم” هذه، فصاروا يعتمدون عليها في صد أي انتقاد، وغالبا ما يخترعون أسماء وهمية تكرّر العبارة نفسها (أو قُل الشتيمة نفسها) بغباء شديد، بحيث أن طفلا يحبو يستطيع اكتشاف الأسماء الوهمية بينها من الحقيقية.
دخلت أجهزة استخبارات عالمية على هذه الجيوش، وتبّنت لعبتها واستغلّتها أيما استغلال. فحرّكت الغرائز المذهبية والعرقية والطائفية والمناطقية وغيرها، وصارت تستخدم أسماء تدلُّ على مذهب أو عرق صاحبها لتشتم أسماء مُقابلة تدلُّ أيضا على مذاهب وأعراق أصحابها. ولعلّ الموساد الإسرائيلي برع أكثر من غيره في ذلك خصوصا حين وجد أمامه أسباب الفتنة السنّية-الشيعية جاهزة ويُفرش له السجاد الأحمر.
يقول البعض إن هذه الجيوش أمرٌ جيد، فهي تردع الخصم، وتُرهب المُعترض فتدفع كثيرين للصمت أو الخوف أو اقفال حساباتهم. وهي بالتالي استمرارٌ ل ” البروباغندا” (الدعاية السياسية) المُعتمدة منذ عهد وزير الدعاية النازية غوبلز حتى اليوم. فما الضيرُ في استمرارها إذا كانت تؤتي ثمارها؟
الضيرُ في الواقع كبير على أصحابها قبل غيرهم. فمعظم عناصر هذه ” الجيوش الالكترونية” الحقيقيون والوهميون، يبدون عديمي الثقافة، فاقدي الذرائع المُقنعة، يفتقرون الى أدنى عناصر الرد القادر على تغيير وجهة نظر الآخر. وهم بالتالي يدفعون الناس للتعاطف مع من يهاجمونه، ويسيئون بشتائمهم وهجماتهم الى الطرف الذي يمثّلونه بحيث يقدّمون، وغالبا عن غباء فاضح، وسائل عظيمة لخصومهم كي يؤكدوا ضحالة ثقافتهم، وركاكة ردودهم، وخواء عقولهم، وغزارة ويلات غرائزهم.
والضيرُ في ذلك أيضا أن الضحالة الثقافية والفكرية وتصحّر الوعي السياسي عند القسم الأكبر من هذه الجيوش الالكترونية، يجعلها تفهم الأمور بعكس مراميها. وغالبا ما نراها تشنّ حروباً على أنصارها قبل أعدائها، فتُساهم في ابعاد المناصرين عن القضايا المركزية التي تؤمن بها.
لو قمنا بدراسة مضمون، لأي هجمة من هجمات الجيوش الالكترونية اليوم على سياسي، أو فنّان، أو مثقّف، أو اعلامي أو ناشط سياسي أو أي شخص آخر يعترض، نجد أنها ساهمت في شهرة هؤلاء وزادت شعبيتهم وضربت القضية التي تدّعي الدفاع عنها.
يزيد الطينُ بلّة أننا في لُبنان لا نطبّق القوانين الاّ عشوائيا وانتقائيا، فيُصبح من السهل مثلا شتم رئيس الدولة رغم ان القانون يمنع ذلك، واستباحة الحياة الشخصية لناشطة أو ناشط سياسي، وتعريض حياة إعلامي للخطر، وتخوين قامات وطنية (د. أسامة سعد مثلا) لمجرّد أنهم قالوا رأياً آخر.
والمضحك المُبكي أن هذه الجيوش الالكترونية، أو جيوش الشتائم، غالبا ما تبلع لسانها حين تجد أن من تناصرُهم قد عدّلوا وجهات نظرهم فتحالفوا مع خصومهم السابقين خدمة لمصالحهم. حصل هذا مثلا في أثناء القطيعة بين الخليج وقطر، ثم بعد المصالحة. أو حين طبّعت الامارات العربية علاقاتها مع إسرائيل، ثم زار الرئيس السوري بشّار الأسد أبو ظبي. أو حين تخاصم ثم تصالح حزب الله والاشتراكي، او حين تحالف ثم تنافر التيار الوطني الحر مع القوات اللبنانية…الخ.
تحتاج هذه الجيوش الالكترونية أو ” جيوش الشتائم” الى درواتٍ عديدة في التثقيف السياسي والدعاية السياسية والالتزام الأخلاقي بمبادئ يدافعون عنها ومن المُفترض أنها تدافع عن أخلاق العامة ومصالحهم. وهي اليوم تحتاج وأكثر من أي وقت مضى، الى أهل الاختصاص في مجالات الإعلام والدعاية، خصوصا ان علم الدعاية الجديد بات يعتمد على ” مؤثرات عصبية” تدخل الى لاوعي المُتلقّي لدفعه الى التعاطف مع صاحب الدعاية. وهذا ما برعت به إسرائيل جداً ذلك أنها غالبا ما نجحت في تقديم نفسها لدى الرأي العام الغربي على أنها ضحية وليست آخر نظام عنصري إجرامي في العالم.
قلة الاخلاق لا تفيد أي قضية، بل بالعكس تماما تهشّمها وتدمّرها وترفع من شأن خصومها. ألم يقل الإمام علي:” إن الله جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلاً بيننا وبينه”؟.