مذكّرات عبد السلام جلّود، تفضح التاريخ الرسمي العربي
بيان ناصر- القسم الثقافي
مذكّرات القيادي الليبي السابق عبد السلام جلود، واحد من أهم الكتب الصادرة حاليا، وذلك لما تكشفه من خفايا كثيرة لفترات متلاحقة من الهزائم والمكائد والأمل والألم، من الشرق الأوسط الى المغرب، خصوصا بعد نكسة عام 1967. فهي تُدخلنا الى قلب اللقاءات ومحاضر الجلسات والاجتماعات العربية التي كان جلّود نفسه فاعلا ومؤثرا فيها ومتمرّدا عل معظم قراراتها التي جاء الكثير منها بفعل الضغوط الاميركية، ويكشف الكثير من الخفايا، ويشرح كم ساهمت ليبيا معمر القذافي بالجهد الحربي الكبير سلاحا وطيرانا وصفقات مع الغرب لأجل دعم الجبهة الشرقية، ويطلق أحكاما صارمة وجريئة كمثل القول ان حرب 1973 كان أسوأ من النكسة التي سبقتها، أو بالنسبة لرأيه بالرئيسين أنور السادات وحسني مُبارك أو بالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس الليبي علي عبدالله صالح الذي يؤكد أنه أمسك بربطة عنقه وشتمه فاتصل صالح بالعقيد الليبي شاكيا وغيرهم.
عبد السلام جلود ليس رجلا عاديا، فهو شارك في الثورة الليبية الشهيرة بقيادة معمّر القذافي، واعتبر طويلا الرجل الثاني في البلاد وصاحب التأثير السياسي والعسكري الكبير، وشغل منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية والمالية والاقتصادي، ولعب أدوارا كبيرة سريّة أو علنية من حرب 1973 التي ذهب في خلالها الى الجبهة مُباشرة يشارك في غرفة العمليات، مرورا بمساندة لبنان قبل وبعد اجتياحه من قبل إسرائيل والوساطة بين المنظمات الفلسطينية وسورية. لذلك فان الكتاب الذي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والذي تنشره صحيفة العربي الجديد على حلقات، جاء في وقته، ولعلّه سيغيّر قناعات كثيرة أو يناقض مُسلّمات عديدة.
نختار منه اليوم العنوان التالي :” المواجهة بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت”
يسرد عبد السلام جلّود التالي:
في أواخر الثمانينيات، تعرّض الرئيس السوري حافظ الأسد لنوبة قلبية حادة ألزمته الفراش. وفي موقف خسيس وانتهازي، قرّر شقيقه رفعت الأسد، وكان قائدًا لقطعات عسكرية تسمى “سرايا الدفاع” – وهي بمنزلة جيش موازٍ للجيش الوطني – تنفيذ “انقلاب” عسكري. فذهبت فورًا إلى دمشق. توجهت من المطار إلى المستشفى حيث يرقد الرئيس الأسد، فوجدته في حالة صحية صعبة، إضافة إلى أنه كان يعيش حالة ألمٍ ومرارة من موقف شقيقه رفعت. قال لي الرئيس الأسد: “أنت يا أخ عبد السلام وليبيا الوحيدون الذين يمكنهم إنقاذ سورية من الدمار الذي ينتظرها”، ثم أضاف: “هو لن ينجح في مؤامرته، ولكننا سنخرج منها محطمين، أرجوك يا عبد السلام أن تبذل كل ما تستطيع من جهد للسيطرة على هذا الوضع، وإقناع رفعت بالتراجع عن موقفه هذا. اضغط عليه للخروج من سورية والذهاب إلى أوروبا للعيش فيها”، ثم أردف قائلًا: “سحبنا ثلاث فرق من الجولان لمواجهته. هذا وضع خطير”. وفي طريقي من المستشفى إلى الفندق رأيت عشرات الدبابات والمدرّعات، لكلا الطرفين، وهي تواجه بعضها بعضًا.
طوال سنوات سابقة، كنت أزور دمشق بانتظام، لكنني لم ألتق رفعت الأسد قَط. كان لدي “موقف” منه ومن سلوكه وتصرفاته، ولكنني وجدتني في موقف يفرض عليّ أن أجتمع به. اتصلت برفعت هاتفيًّا وقلت له: “يا رفعت، طوال هذه السنوات كنت أزور سورية وأنت حتى لم تجرب الاتصال بي”، فردّ علي قائلًا: “أنت والأخ معمّر لديكما موقف مني؛ بينما كنت أرى فيكما القيادة القومية للأمة”، فقلت له: “أنا في طريقي إليك”. وحين التقيت مع رفعت، استغرق اللقاء الأول بيننا عدة ساعات تخللها عشاء عمل. طوال ساعات اللقاء، كنت شديد القسوة في الحديث معه، وقلت له: “كيف تسمح لنفسك باستغلال ظروف مرض شقيقك. لقد وضعت نفسك في موقف دنيء وأعمى لا يبصر المخاطر. كان الواجب يتطلب منك أن تكون إلى جواره في المستشفى لا أن تنفذ انقلابًا. والآن يا رفعت توقف عن هذا التصرف واسحب القوات وجنّب سورية التدمير”. اتفقنا خلال اللقاء على عقد سلسلة لقاءات معمّقة لدراسة الوضع وإيجاد الحلول، ثم عانقني مودّعًا، وقال لي: “من قبل كان لي أخ، والآن لدي اثنان”، فقلت له: “ومَن هما؟”، فقال: “الأمير عبد الله بن عبد العزيز وأنت”، فقلت له: “لا، عليك أن تختار إمّا أنا وإمّا الأمير”، فضحك، والأكيد أنه اختار الأمير عبد الله.
ومع ذلك، وفي هذه الأجواء المشحونة والمتوترة، تواصلت اللقاءات اليومية بيننا ليلًا ونهارًا، كنت خلالها أقوم بتكثيف الضغوط عليه للتراجع.وخلال هذه اللقاءات كنت أحرص على زيارة الرئيس الأسد في المستشفى يوميًا وعقب كل لقاء، كان يقول لي: “هذه مهمة قومية وأنت أهل لها يجب عليك ألا تكلّ ولا تملّ”. وبالفعل، وخلال أسبوع كامل مارست كل وسائل الضغط على رفعت ووصل بي الأمر حدّ تهديده، وأخيرًا بدأ يلين وتظهر بوادر على تغير في مواقفه. في لقاء حاسم بعد نهاية أسبوع كامل من اللقاءات اليومية، سألني: “وكيف أغادر سورية إلى الخارج. أنا مُتهم بأنني عميل سعودي وعميل أميركي”، فقلت له: “إذا استمررت في مؤامرتك ونفذت الانقلاب ودمرت سورية فسوف تبرهن للجميع أنك عميل سعودي وأميركي؛ أما إذا ضحيت بنفسك في سبيل سورية فسوف تؤكد للجميع أنك رجل وطني ولست عميلًا”. في أثناء هذا الحوار الساخن، قال لي بصراحة: “وماذا سوف تقول عني أسرتي لو أنني قررت مغادرة سورية، سوف يلحق العار بي وبأسرتي. أنت تعلم أن أسرتي مؤلفة من 48 فردًا، ولذلك سوف أطلب مبلغ 200 مليون دولار لأؤمن على أسرتي في الخارج؛ كما أنني لن أغادر سورية إذا ما كانت هناك تهمة الرجعية أو العمالة موجهة إلي”، فقلت له: “قبل أن تخرج إلى أوروبا سوف نرتب لك زيارة للاتحاد السوفياتي لنفي أي تهمة عنك”.
كان الرئيس حافظ الأسد يعيش حالة ألمٍ ومرارة من موقف شقيقه رفعت. قال لي: أنت يا أخ عبد السلام وليبيا الوحيدون الذين يمكنهم إنقاذ سورية من الدمار الذي ينتظرها
عقب هذا اللقاء، ذهبت مسرعًا إلى زيارة الرئيس الأسد في المستشفى، ونقلت له ما دار بيني وبين رفعت من نقاش، وأنه يرغب في “النفي الطوعي” في أوروبا، لكنه اشترط أن يحصل على 200 مليون دولار. فقال الرئيس الأسد “ليس لدينا ما يكفي من العملة الصعبة. هل ليبيا مستعدة لدفع هذا المبلغ لتحافظ على سورية وتحول دون تدميرها؟” فقلت له: “نحن لا نستطيع أن ندفع المبلغ مباشرة لرفعت، لكن يمكن تقديم هذا المبلغ كمساعدة من ليبيا لسورية، وعليكم أن تتصرفوا”. وبالفعل، اتصلت بأحمد رمضان وطلبت منه أن يرسل رجب المسلاتي محافظ مصرف ليبيا المركزي بطائرة صغيرة خاصة. وحين وصل محافظ المصرف إلى دمشق، اجتمعت به وأبلغته أنني قررت منح سورية هذا المبلغ، وطلبت منه لقاء محافظ مصرف سورية المركزي وتوقيع الاتفاقية. وهكذا، أنجزت مهمتي القومية الصعبة والمعقّدة في سورية بمنع رفعت الأسد من تنفيذ انقلابه، كما ساهمت في ترتيب أمر سفره إلى الاتحاد السوفياتي، ثمّ انتقاله نهائيًا إلى أوروبا.
صفقة مع شركاء أمين الجميل
وحدث أنني التقيت بشخص لبناني أرمني على علاقة وثيقة برفعت اسمه إيلي، وعلمت من حديثه معي أن رفعت يعامله بقسوة وبتعالٍ لا مثيل لهما، ولمّا التقينا مصادفة ورأى في شخصي رجلًا بسيطًا ومتواضعًا، عقد في أعماق نفسه مقارنة بيننا؛ ولذا قال لي: “أنا لا أعرف ليبيا ولا الليبيين، ولكن إذا كان الليبيون مثلك فأنا أحبّ ليبيا والليبيين”. وفي سياق هذا الحديث قال لي: “أنا رئيس مجلس إدارة شركة “تام أويل” التي يملكها رجل أعمال برازيلي من أصول لبنانية اسمه ‘تامرت’ وشريكه أمين الجميّل. الشركة تملك مصفاة في إيطاليا طاقتها 160 ألف برميل يوميًّا ولديها ثلاثة آلاف ميل من خطوط الأنابيب عبر أوروبا لنقل المشتقات النفطية، كما تملك محطات توزيع وقود تنتشر في بلدان أوروبية كثيرة. الشركة مهدّدة بالإفلاس، نظرًا إلى أنها مدينة للمصارف الأوروبية بمبلغ 60 مليون دولار. وبدلًا من أن تشتريها أوروبا، فمن الأفضل أن تشتريها ليبيا. وفي حال اشترتها ليبيا، فأنا أرغب في شراء 15 في المئة من الأسهم”.
وعلى الفور اتصلت بأحمد رمضان في طرابلس، وطلبت منه أن يرسل طائرة خاصة إلى دمشق تحمل كلًّا من رجب المسلاتي ومحمد سيالة ومحمد عبد الجواد، ولما وصلوا اجتمعت بهم وقلت: “لن نتحدث في السياسة. إذا كان في مصلحة ليبيا شراء هذه الشركة اشتروها”. وبالفعل، تمّت صفقة الشراء. في الواقع اشترينا الشركة بدولار واحد، وتكفلت ليبيا بسداد 60 مليون دولار للمصارف الأوروبية. بيد أن الفريق المفاوض رفض أن يمتلك السيد إيلي 15 في المئة من الأسهم. بعد سبعة أشهر فقط، وصلت قيمة أسهم الشركة “تام أويل” إلى 1,7 مليار دولار، وبعد سنتين وصلت قيمة الشركة إلى 3 مليارات دولار. ثم بعد خمس سنوات أصبحت قيمة أسهمها 5 مليارات دولار. وكانت هذه ثانية أعظم الصفقات الرابحة التي حققتها ليبيا بعد الثورة، بعد صفقة شركة “فيات”.
—————————————————————————————————————
المقال مُقتبس عن صحيفة ” العربي الجديد” على الرابط التالي :
https://www.alaraby.co.uk/politics/%D8%AC%D9%84%D9%88%D8%AF-%D8%A3%D8%B9%D8%B7%D9%8A%D9%86%D8%A7-%D8%B1%D9%81%D8%B9%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-200-%D9%85%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1-3-5