التقرير الاستراتيجي الأسبوعي
سامي كليب:
يقول آخر تقرير للجيش الإسرائيلي إن هذا الأخير أبلغ حكومته، بأنه “أعدّ بنك أهداف وسيناريوهات عديدة لاحتمال ضرب إيران والاستعداد لإمكانية القتال مع حزب الله وحركة حماس إذا تحرّكا في إطار تداعيات الضربة، لكنه لا يزال من الصعب تحديد التبعات التي قد يؤدي إليها مثل هذا الهجوم، خصوصا أن طهران طوّرت دفاعاتها الجوية على مدار السنوات الماضية، ما يجعل الضربة الجوية أكثر تعقيدا، وان صواريخها بعيدة المدى تطورت بشكل كبير ويمكن ان تصل بسهولة الى أي نقطة في إسرائيل”.
ثمة افتراضان حالياً على مستوى الغرب، يقول أولُهما إن إيران قد امتلكت فعلا القنبلة أو القدرة على تصنيعها، والثاني يؤكد أن هذا نوعٌ من التهويل الإسرائيلي والضغط الغربي يهدف الى دفع القيادة الإيرانية الى التفاوض حول برنامجها النووي، ولكن أيضا على صواريخها الباليستية تجنّبا لحرب كُبرى.
قبل الجواب الحاسم نحتاج عودةً قليلا الى أصل القضية.
حين أنتُخب مناحيم بيغن رئيس للحكومة الإسرائيلية عام 1977، قال “إن إسرائيل لن توافق أو تتكيف مع بروز قوة نووية مجاورة تهدّد وجودها”. لم يكن يقصد آنذاك إيران بقيادة الشاه رغم تطويرها برامج نووية، وإنما العراق بعد حصوله على مفاعل نووي من فرنسا.
نفّذت إسرائيل بالفعل وعيدها، فدمّرت فجر 6 نيسان 1979 على أرض فرنسا نفسها المعدّات النووية والتي كانت مُخزّنة لشحنها الى العراق في منطقة Seyne-sur-Mer، لكن باريس استمرت في بناء المفاعل، ما دفع الجيش الإسرائيلي الى تدميره في صيف العام 1981، أي قبل عام واحد من اجتياح لُبنان، وفي أوج الحرب العراقية الإيرانية. وقيل إن باريس نفسها هي التي أعطت المعلومات الاستخبارية لإسرائيل بعدما قبضت ثمن المفاعل.
مُذّاك اشتهر ما بات يُعرف باسم ” عقيدة بيغن“، وهي نفسها التي على أساسها دمّر الطيران الإسرائيلي في أيلول/ سبتمبر 2007 موقعا سوريا على نهر الفُرات قيل إنه مصنع نووي حصلت عليه دمشق من كوريا الشمالية.
المسلسل الإسرائيلي حول إيران
انتهى الخطر النووي العراقي، ليبدأ المسلسل الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من 20 عاما بشأن احتمال حصول إيران على قنبلة نووية. كان أول تصريح لرئيس الأركان الإسرائيلي عوزي دايان في العام 1994 قال فيه:” إن إسرائيل مضطّرةٌ لشن هجوم استباقي ضد منشآتٍ إيرانية قبل أن تُصبح قادرة على التشغيل”. لم يحصل أي شيء، وبقيت قضية النووي الإيراني مجرّد تكهُّنات حتى تم تسريب معلومات من قبل المعارضة الإيرانية تقول إن طهران تملك على الأقل مفاعلين نوويين هما ناتنز وآراك.
كان لانتخابِ محمود أحمدي نجاد وتصريحاته حول القضاء على إسرائيل وبشأن محارق اليهود وقع الصاعقة على إسرائيل، ولكن ذلك ساعدها أيضا في ذرائعها للقول لحلفائها الغربيين إن أي تطوير للبرنامج النووي الإيراني يعني خطوة حاسمة في سياق تدمير إسرائيل. جوبهت تلك الذرائع بتحليلات متناقضة، بعضُها يدعم المخاوف الإسرائيلية وبعضُها الآخر يعتبر أن في الأمر مغالاةً، ذلك أنه، حتى لو امتلكت إيران قنبلة فهي لن تستخدمها لمعرفتها بأن الضربات الثانية الإسرائيلية بالنووي والتي قد تنضم اليها دول أخرى ستحدث دمارا هائلا في السلاح والبنى التحتية الإيرانية ” وتعيدها الى العصر الحجري” كما قال مسؤولون إسرائليون.
نجح الأوروبيون في اقناع إيران عام 2004 بتجميد نشاطاتها النووية، وذلك بعد عام على اجتياح أميركا وبريطانيا للعراق، وكانت الأجواء جميعها آنذاك تُنذر بالأسوأ من سياسة جورج بوش الأبن وافكاره التبشيرية حيث وضع إيران وسورية وكوريا الشمالية في إطار محور الشر. وكانت الاعتداءات الإرهابية على نيويورك في العام 2001 قد فعلت فعلها في تعبئة وتهييج جزء كبير من الرأي العام العالمي وتشريعه لأي عمل عسكري ضد أي دولة ترى فيها أميركا والغرب شراً.
الرئيس نجاد مضى في التحدي بعد ذلك بعامين فقط، فأوقف في العام 2006 (وهو عام الحرب الإسرائيلية الضروس على لبنان) مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي كان الأوروبيون نجحوا بإدخالها الى المفاعلات الإيرانية، وكشف في صيف العام 2007 عن حيازة إيران على 3000 مفاعل نووي لتخصيب اليورانيوم، وعن تطويرها الصواريخ الباليستية وبينها ” سجّيل 2″ الذي يصل مداه الى أكثر من 2000 كيلومترا.
القلق الإسرائيلي والمعلومات عن القنبلة
ارتفع القلق الإسرائيلي وعملية التهييج الإعلامي وتعزيز الدعاية، خصوصا مع صدور مؤلفات وتقارير غربية تؤكد قرب امتلاك إيران القنبلة، فهذا مثلا ما قالته الباحثة والكاتبة الفرنسية تيريز ديلبيش منذ العام 2006 حين جزمت في كتابها ” L’iran, La bombe et la demission des nation” ( إيران، القنبلة واستقالة الأمم) بأن طهران باتت على مشارف امتلاك القنبلة، وانها ستصنّعها في خلال عام (أي قبل نهاية العام 2007) وأنها حصلت تاريخيا على كل ما يتعلق بها من الصين ثم كوريا الشمالية، وأن أي محاولة إسرائيلية لمنعها، تحتاج الى قصف متواصل لأسابيع عديدة ذلك أن طهران وزّعت المفاعلات على معظم الأراضي الإيرانية وفي أماكن نائية. وهو ما أكده لاحقا أيضا الكاتب باتريك أنيدجار في كتابه ” القنبلة الإيرانية، إسرائيل في مواجهة التهديد” حيث جزم هو الآخر منذ العام 2008 بعد تحقيقات واسعة اجراها في أوروبا وإسرائيل وأميركا ان إيران ستملك القنبلة في خلال شهور قليلة.
قبيل موجات الانتفاضات الشعبية العربية وبعض الانتفاضات داخل إيران نفسها، قال الجنرال مايكل هرتزوغ مدير ديوان وزارة الدفاع الإسرائيلية إن” إيران ستملك قبل نهاية العام 2010 وفي اقصى حد مع بداية العام 2011 ما يكفيها من المواد الانشطارية لإنتاج قنبلة ذرّية”، وكذلك أكد رئيس جهاز الموساد مئير داغان في صيف العام 2009 أمام لجنة الخارجية والدفاع في الكنيست أنه :” اذا لم يعترض البرنامج النووي الإيراني أي معوّقات، فان طهران ستملك قنبلة قابلة للاستخدام في العام 2014″، وكذلك الأمر بالنسبة للاستخبارات الأميركية التي توقّعت آنذاك أن تكون ايران قادرة على تصنيع القنبلة في العام 2013. لم تفعل إسرائيل شيئا ولم تهاجم ولم تشنّ حرباً واسعة.
ثمة من يربط الحرب السورية بهذا العامل المتعلق بالبرنامج النووي الإيراني والصواريخ الباليستية، من منطلق أن إسرائيل التي ترى قدراتها محدودة على شن حرب واسعة ضد الأراضي الإيرانية، وتكتفي بقصفٍ متقطع أو باغتيال علماء أو بتخريب المفاعلات الكترونيا، شجّعت الحرب السورية من منطلق تطويق إيران واشغالها والضغط عليها لقطف ثمارِ تراجعها عن برامجها النووية والصاروخية.
آنذاك قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ربيع العام 2009:” لن نسمح للذين ينكرون وجود المحارق بأن يقوموا بمثلها”
التفاوض لا الحرب ولكن
كل تلك التصريحات والمعلومات حول تطوير إيران برامجها النووية وتسريع تخصيب اليورانيوم واحتمال قيام إسرائيل بعمل عسكري، دفعت الغرب للتفكير بالتفاوض، فبدأت في تشرين الأول أكتوبر من العام 2009 محادثات في فيينا بين طهران والدول الخمس الدائمي العضوية في مجلس الأمن، وكان ثمة اقتراح بأن تنقل إيران مخزونها من اليورانيوم المخصّب بنسبة 3،5% الى روسيا، أو ان تزيد تخصيبه الى 20 % وينقل الى فرنسا لتحويله الى وقود نووي ثم اعادته الى إيران.
كان رد الرئيس نجاد في خريف العام 2010، بأن إيران ستخصّب بنفسها اليورانيوم بنسبة 20%، وهو ما دفع أميركا وبعض الغرب لتشديد العقوبات على بلاده.
نُلاحظ إذاً أن تطوير إيران برنامجها النووي مُستمرٌ منذ نحو 20 عاما أو أكثر، والتهديدات الإسرائيلية مُستمرة منذ ربع قرن. فلا الأولى أكدت مرة واحدة رغبتها بالحصول على القنبلة، بل بالعكس تماما، هي تقول إن القنبلة مرفوضة دينيا وإنسانيا، ولا الثانية أقدمت على حرب كُبرى وتكتفي بهجمات وتعطيل واغتيالات.
جدلُ داخل إسرائيل
يبدو أن الجدل القديم المتجدّد في إسرائيل نفسها ما زال على حاله، فهناك تيّاران، يقول أحدهما بأن إيران ربما ملكت أو تستعد لامتلاك قنبلة نووية وأنه من الضروري القيام بعمل عسكري مهما كلّف الأمر لأن العقيدة الدينية لطهران تُحتّم تدمير إسرائيل حتى ولو اعتدلت التصريحات، والرأي الثاني يقول إن إيران لا تحتاج الى حرب، فالوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تكشف حتى اليوم عن وجود قنبلة حتى لو أنها أعربت عن القلق بالوصول اليها بعد رفع التخصيب الإيراني الى مستوى 60 %، وأنها، حتى لو امتلكت القنبلة فهي لن تهدّد إسرائيل لمعرفة الكوارث التي قد تقع على أرضها لو استخدمتها.
مع ذلك فالتقارير التي صدرت مؤخرا من جهات إسرائيلية وأميركية وأوروبية وحتى في بعض تلميحات الوكالة الدولية، أكدت أن إيران طوّرت كثيرا عمليات التخصيب منذ انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في العام 2015 في عهد الرئيس باراك أوباما.
العقدة الأميركية
هنا تذهب التحليلات الى هذه العقدة الأميركية عند الإسرائيليين، فإدارة الرئيس جو بايدن هي عملياً امتداد لإدارة أوباما، وهي راغبة بالتفاوض تماما كرغبة إيران. ولذلك يرتفع منسوب القلق الإسرائيلي لثلاثة أهداف، أولها محاولة منع الغرب من إحداث انفراجات مالية لإيران في حال تجميد برنامجها النووي وربطه بشرط شلّ القدرات الصاروخية الباليستية ودعم طهران لقوى مناهضة لإسرائيل عند حدودها أو في الداخل، وثانيها رفع مستوى القلق بغية الحصول على مساعدات استثنائية لإسرائيل في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية وعدم الضغط عليها في استكمال سياسة الاستيطان او التهويد، وثالثها أنه لو حصلت إيران فعلا على القنبلة فهذا سيشجع دول الجوار من مصر الى السعودية وغيرها للقيام بالمثل، وقد كان تصريح رئيس الاستخبارات السعودية سابقا الأمير تركي الفيصل لافتا حين قال :” علينا القيام بكل ما هو ضروري للدفاع عن أنفسنا، بما في ذلك تطوير قنبلة نووية، لمواجهة احتمالية وجود إيران مسلّحة نووياً”
ماذا لو أن القنبلة موجودة؟
السؤال الأول المطروح حاليا، هل تُهاجم إسرائيل إيران بعد أن تُبادر الى كشف معلومات موثوقة حول قنبلة إيرانية؟ وما هو مدى الهجوم إذا حصل، خصوصا أن الرئيس الإيراني المحافظ إبراهيم رئيسي هدّد برد قاسٍ جدا وشامل وحاسم في حال أقدمت إسرائيل على أي عمل عسكري في عمق الأراضي الإسرائيلية.
الجيش الإسرائيلي أعدّ خطة متكاملة لحرب شاملة، وزادت الحكومة ميزانية الدفاع استعدادا لذلك، وهي أبلغت مستشار الأمن القومي الأميركي بذلك حين زار تل أبيب، وكانت حكومة نفتالي بينيت قد صادقت على الخطة السابقة التي أعدتها حكومة بنيامين نتنياهو للإعداد للخيار العسكري وأقرت ميزانية إضافية تصل الى نحو ملياري دولار.
هكذا فعلت أيران أيضا، حيث كثّفت استعداداتها لاحتمال المواجهة.
والسؤال الثاني، هل تُقدم إسرائيل على تنفيذ تهديدات بحرب على إيران تُكرّرها منذ نحو ربع قرن؟ الواقع أنها لذلك تحتاج أولا الى ذريعة كبيرة كمثل التأكد من وجود قنبلة نووية أو الاقتراب جدا منها، وثانيا موافقة الأميركيين على ذلك.
حتى الآن يبدو أن واشنطن وطهران تُفضّلان طريق التفاوض رغم العقبات، ولعلّ كل هذه الضغوط التي قد تترافق مع ضربات إسرائيلية محدودة، تهدف الى توسيع المفاوضات للصواريخ الباليستية ولدور إيران في المنطقة، وآخر الاخبار عما يحصل في جنيف يبدو حاملا لبعض الأمل.
والسؤال الثالث، ماذا لو كانت إيران قد امتلكت فعلا القنبلة، كما هي الحال في باكستان والهند وإسرائيل وغيرها؟ فهي نفسها كانت قد كشف عن أكثر من 100 كيلوغرام من اليورانيوم المُخصّب بدرجة 20%”،وعن تخصيب 25 كيلوغراما آخر بنسبة 60%.، والمعروف ان القنبلة تحتاج الى نسبة 90 بالمئة.
حين تكشف طهران عن هذه النسب، هل تكون قد كشفت فعلا عن كل ما لديها؟ على الأرج لا، حتى ولو أنها استخدمت ذلك لكبح جماح إسرائيل ولدفع المفاوضين الغربيين الى تقديم تنازلات.
أما السؤال الرابع: ماذا لو أن بعض الغرب يُفكّر بأن حصول إيران على القنبلة لن يكون سيئا الى هذه الدرجة، فهذا سيُحدث توازنا عسكريا يمنع الحروب ولا يثيرها، خصوصا أن إسرائيل ما عادت ترد على أحد في سياستها الاستيطانية التوسّعية وتهويد الدولة ورفض قيام دولة فلسطينية… الاّ يفكر الغربُ والشرق بأنه بدون حل القضية الفلسطينية سيبقى هذا الشرق مُشتعلا؟ هذا مجرد سؤال قد يبدو غير منطقي لكنه ممكن، تماما كما هو منطقي القول أنه لو حصلت إيران على قنبلة وسعت دول أخرى لها، فهذا سيشجّع على وضع استراتيجية دولية تُفرض على الجميع بما في ذلك إسرائيل لإقامة منطقة منزوعة أسلحة الدمار الشامل. فنجاح التفاوض مع إيران سيؤسس لمرحلة مختلفة تماما. والغرب لا يعترض على قنبلة إسلامية وانما على تصدير الثورة الإيرانية الى المنطقة، ولو كان يعترض على ذلك لما سمح لباكستان ذات الغالبية المسلمة من امتلاك هذا السلاح. المشكلة اذا هي في الدور وفي مستقبل التطور العلمي والتكنولوجي المنافس وفي الموقف من إسرائيل، وثمة من يأمل بأن يكون التفاوض هو الطريق الأسلم، ومن يدري فيوما ما قد تُصبح العلاقات الأميركية الإيرانية ممتازة. الم تكن أميركا تعتبر إيران محور الشر، وطهران تعتبرها الشيطان الأكبر. ها هما يتفاوضان ببراغماتية عالية، ولهما مصلحة في ذلك أولا إيران تحتاج الى المال ورفع العقوبات، وثانيا اميركا تعرف أنها لو اقفلت الأبواب تماما، فالصين وطريق الحرير وروسيا بالانتظار على أحر من الجمر.