ثقافة ومنوعات

الصين بين الحاكِم والفيلسوف والتوريث السياسي.

لجين سليمان-الصين 

لم تكن علاقة الفلاسفة الصينيين بالحكام بدءا من “كونفوشيوس” مرورا بـ “ماوتز” وانتهاء بـ “منشيوس” علاقة خضوع وانقياد،  بل على العكس تماما، بدت الأحوال بحسب ما وصل من ذلك العصر  (ما قبل الميلاد) بأنّ الفيلسوف كان قوّامّا على الحاكم، وقد أدّى ذلك إلى حصول نوع من التداخل بين الفلسلفة  والحكم.

الواقع  أن التأسيس لهذا التيار الفلسفي في ذلك الزمن البعيد، يعود إلى كونفوشيوس الذي بدأ  بالتنظير لما يجب أن يكون عليه الحكم والحاكم، وتبعه الآخرون على اختلاف المدارس الفلسفية التي جاءت بعده، وفيما يلي مقتطفات من كتاب “الفكر الصيني ..من كونفوشيوس إلى ماوتسي تونغ”  لمؤلفه “ه ج كريل” المتخصص في الفلسفة والتاريخ الصينيين.

نظر كونفوشيوس إلى العالم من حوله، وأدرك ضرورة وجود حكومة صالحة، محاولا إظهار المساوئ السائدة في عصره، والناجمة عن وجود حكومة فاسدة، وتساءل “لماذا كانت الحكومة فاسدة؟” فعلّل ذلك بأنّ “أولئك الحاكمين لم يكونوا يميلون إلى أن تكون عندهم الرغبة في قيام حكومة صالحة أو لم تكن قدراتهم وتربيتهم تؤهلهم لذلك..لماذا؟ لأنهم ورثوا منصابهم؟”

ولقد آمن كونفوشيوس بأن الهدف الأساسي الذي يجب أن تضعه أي حكومة كغاية لها هي رفاهية الناس أجمعين وسعادتهم، وكان يعتقد أن هذه السعادة لن تتحقق إلا إذا تولى شؤون الحكم أعظم الرجال كفاية في البلاد.

ولم يطالب كونفوشيوس الحكام الذين وصلوا إلى الحكم عن طريق الوراثة بالتخلي عن عروشهم، بل حاول أن يقنعهم بأن الواجب عليهم أن “يملكوا ولا يحكموا” ، وأن يسندوا السلطات الإدارية كافة إلى الوزراء المختارين طبقا لمؤهلاتهم.

وعندما سأل أحد طلاب كونفوشيوس عما ينبغي أن يكون عليه سلوك الوزير  تجاه حاكمه، أجاب “ألا يخدعه، ولكن إذا لزم الأمر يجب أن يكون صريحا معه”

على ما يبدو فإنه وفي ذلك العصر، وعلى الرغم من إتاحة مجال للفيلسوف ليشارك بالحكم بآرائه، إلا أن هناك نوعا من النقمة من قبل الحاكم، إذ  يُحكى أن كثيرا من الحكام اعتقدوا أن كونفوشيوس كان غريب الأطوار وخطيرا.

وقد قضى كونفوشيوس عشر سنوات في التنقل من ولاية إلى ولاية في شمال الصين بحثا عن حاكم قد يستخدم فلسفته في تسيير حكومته، فلم يجد أحدا قط.

 تتحدث إحدى القصص التي وصلت من أيام ذلك العصر، عن أن أحد الأرستقراطين ويدعى “تشي” وكان رئيسا لأقوى عائلة في ولاية “لو” سأل كونفوشيوس كيف يمكن أن يعامل اللصوص بطريق فعّالة فأجابه “إنك يا سيدي إذا لم تطمع في أشياء لا تخصّك  فإنهم لن يسرقوا حتى لو أنك استأجرتهم لذلك”

أما “ماوتز” الذي انشقّ عن الكنفوشيين وأسّس مدرسته الخاصة، فقد رأى أن الحكومة يجب أن تتماشى مع رغبات الشعب يقول “يرغب كل الحكام اليوم في أن تكون مناطق نفوذهم ثريّة، وأن يزداد عدد رعاياهم، وأن توجِد إدارتهم النظام، ولكنهم في الحقيقة لم يحصلوا على الثراء بل على الفقر، ولا على زيادة عدد رعاياهم بل ندرة رعاياهم، ولم يستتب النظام بل سادت الفوضى، وثم فقدوا ما يرغبون به ولقوا ما يكرهونه، والسبب في ذلك هو أنّ الحكام قد عجزوا عن تمجيد الفاضل، ولم يتيحوا فرصة للأكفياء لكي يديروا شؤون حكوماتهم”

ويظهر الكتاب أن هناك اتفاق بين رؤيتي “كونفوشيوس” و “ماوتز” في أنّ الحكام الوارثين يجب أن يسلموا زمام حكوماتهم الى الاشخاص ذوي الفضيلة والكفاية.

في كتاب “موتزو” جاء ما يلي:

” لنفرض أن حاكما أراد رداء مصنوعا من قماش من الصعب قطعه قطعا مناسبا، فسيبحث بكل تأكيد عن خياط ماهر، وإذا أراد أن يشفى جوادا فسيبحث عن بيطار ماهر، وفي القيام بكل هذه الاعمال فلن يستخدم الحاكم أقاربه ولا أولئك الذين هم أثرياء ونبلاء، ولا أولئك الأشخاص الذين هم مجرد أشخاص حسني المظهر، لأنه يعلم أنهم ليسوا أكفياء للقيام بذلك…ولكن إذا كان الموضوع موضوع حكم دولة فإنّ الأمر لن يكون على هذه الصورة إذ يختار الحاكم لهذا العمل  أقاربه ومن هم أثرياء بلا مواهب، وأولئك الذين هم مجرد أشخاص حسني المظهر…هل تهمّه الدولة ولو بقليل مثل اهتمامه بجواده المريض أو حلة ملابسه؟”

وحول الحروب التي تشنّها الدول على بعضها كان هناك شبه اتفاق بين “الكنفوشوسيين” و”موتزو” أن أكبر الشرور هي النهب والسلب والحروب التي تشنّها الدول الكبرى على الدول الصغرى.

أما الفيلسوف الكونفوشي “منشيوس” فقد رأى أنه “يجب أن يكون لكلّ حاكم مؤدّب يقوم بالنسبة إليه مقام الأب أو الأخ الأكبر، ومن ثم فمكانته أسمى من أن تكون كمكانة أحد الرعية”.

وقد استاء “منشيوس” نفسه استياء شديدا عندما بعث إليه رئيس وزراء ولاية “تشي” بهدية من العاصمة دون أن يسافر الى البلد التي كان “منشيوس” مقيما فيها ليقدمها بنفسه.

وقد كان “منشيوس” أكثر معارضة لمبدأ الوراثة في الحكم ، ولكن مع ذلك يؤكد أهميّة إرضاء الأسرة الكبيرة التي تحسن استخدام السلطة التي ورثتها.

وذكر منشيوس لملك “تشي” أن الحاكم المخطئ ينبغي أن يؤدّبه وزراؤه التأديب اللائق، ليعود ويفسّر هذا الأمر قائلا:  “الوزراء الذين ليست لهم قرابة بالحاكم يجب أن يعارضوه، وإذا لم يستمع إلى نصيحتهم يجب أن يستقيلوا في هدوء، ولكن أولئك الوزراء الذين هم أقاربه فعليهم إذا لم يصلح هو من أسلوبه في الحكم بعد الاحتجاج، أن يعزلوه عن العرش” ويحكى أنّه عندما ذكر منشيوس ذلك “امتقع لون الملك”.

وقد أوضح “منشيوس” أنّ الحاكم الذي يفقد رضى شعبه لا يمكن أن يعتمد عليه ليقاتَل من أجله في وقت الحرب، ومن ناحية أخرى فإن الحاكم الذي يعامل شعبه معاملة طيبة فسيؤيدونه في ولاء تام حتى لا يقهر.

وما يميّز “منشيوس” عن باقي الفلاسفة الصينيين هو تنظيره الاقتصادي فقد رأى “أن الاقتصاد له علاقة وثيقة بالأخلاق، إذ أكد أن الشعب الجائع لا يمكن أن نتوقع منه أن يلتزم بالأخلاق”

بالمجمل يمكن القول إن تداخل الفلسفة بالحكم كان ضرورة لدى الحاكم، وليس فقط لدى الفليلسوف، فعلى الرغم من أن نقطة البدء كانت فلسفية نابعة من حاجة المجتمع إلى التنظير بأفكار فلسفية حول ما يجب أن يكون عليه الحكم، إلا أن للحاكم مصلحة في حماية أركانه بالعقل اعتمادا على آراء العلماء والفلاسفة.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button