مقال اليوم

بابا الفاتيكان يُرسخ مباديء المسيحية في قلب تركيا

 جان ماري غينو – موفد خاص  لصحيفة لوفيغارو إلى أنقرة 

ذكّر البابا، أمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالقيم المحورية للتسامح والحوار من أجل بناء «سلام عادل ودائم».

في صباح الخميس، في الممرّ المركزي لطائرة A320 التابعة لشركة “إيتا إيروايز” ITA Airways، وبعد إقلاعها بقليل، أخذ ليون الرابع عشر يتجوّل داخل الطائرة لتحية الصحفيين على متنها. أحدهم، من بين 82 صحفياً من خمس عشرة جنسية مختلفة يرافقونه في هذه الرحلة من روما إلى أنقرة، وهي أول رحلة رسولية له، ناوله مضرب بيسبول. فقال البابا متعجباً: «لكن كيف اجتاز هذا المضرب إجراءات الأمن؟!». فأجابه الصحفي: «إنه هدية لكم». هذا المضرب يعود لفريق شيكاغو وايت سوكس Chicago White Sox في خمسينيات القرن الماضي. كان في حوزة عائلة من تلك المدينة أرادت أن تهديه لكم». وبصفته خبيراً، لم يَفُتْ البابا – وهو المشجع السابق، وابن مدينة شيكاغو، الذي أصبح رئيساً للكنيسة الكاثوليكية – أن يُقدِّر ذلك: فـنيللي فوكس كان أسطورة.

على ملعب آخر، صار الآن روبرت بريفوست بدوره أسطورة من أساطير شيكاغو. لا بطولات في الأفق، لكن هناك اهتماماً خاصاً يُمنح لرحلاته الدولية. فتركيا ولبنان، المدرجان في برنامج هذه الرحلة الأولى، ليسا بالتأكيد من أكثر المناطق هدوءاً لهذا “الاختبار الناري” البابوي. لكن، بالتوجّه إلى أنقرة الخميس، ثم إلى إسطنبول قبل أن يُقلِع إلى بيروت يوم الأحد، يفي ليون الرابع عشر بالتزام سلفه، فرنسيس، الذي كان مقرراً أن يأتي إلى هنا في أيار/مايو الماضي. توفي البابا الأرجنتيني في 21 نيسان/أبريل، وخلفه ليون الرابع عشر في 8 أيار/مايو.

البروتوكول المتَّبع في الرحلات البابوية يبدأ دائماً بلقاءٍ بين البابا ورئيس دولة البلد المضيف. وقد جرى هذا اللقاء يوم الخميس، منتصف النهار تقريباً، في القصر الرئاسي الضخم في أنقرة، وسط تركيا جغرافياً. سبقت ذلك محطة قصيرة في ضريح أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية وأول رئيس لها (1881-1938)، ثم أجرى ليون الرابع عشر لقاءً مغلقاً مع رجب طيب أردوغان. بعد ذلك ألقى خطابه الرسمي الأول أمام السلطات المدنية وأعضاء السلك الدبلوماسي.

«في مجتمع مثل المجتمع التركي، حيث تلعب الدين دوراً مرئياً،من الأساسي أن نكرِّم كرامة وحرية جميع أبناء الله» ليون الرابع عشر

 إزاء المناخ الجيوسياسي المتوتر للغاية في المنطقة، أعرب البابا الأميركي عن قلقه قائلاً: «يجب ألا نعتاد أبداً على حالة الحرب التي يُدفع إليها العالم، ولا على التوترات المستمرة». ثم تساءل عن نوع «الانحراف» الذي يشهده الزمن الحالي: الانتقال من مرحلة تاريخية اتسمت ببناء المنظمات الدولية الكبرى – بعد «مأساة» الحربين العالميتين – إلى الوضع الراهن الذي تهيمن عليه «شخصيات عالمية» (لم يسمّها) تسعى إلى الخروج من أزمتين كبيرتين: الحرب في أوكرانيا، والصراع بين إسرائيل وحماس وحزب الله المتمركز في جنوب لبنان.

وإذ يعبِّر فقط بالإنكليزية، أطلق هذا النداء: «اليوم أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى قادة يشجعون الحوار ويمارسونه بعزم وصبر».

في نظره، إن هذه «الشخصيات العالمية» – الساعية إلى مخرج من الأزمتين – أسهمت في الانتقال من لحظة تاريخية طُبعت ببناء نظام دولي، إلى زمن يسوده منطق المواجهة العالمية، حيث تطغى علاقات القوة، على حساب البحث عن توازن مستقر.

في هذا السياق، قال البابا إن الكرسي الرسولي «لا يملك سوى قوته الروحية والأخلاقية»، مستشهداً بسلفه. ومن دون شكّ سيعود، خلال محطته اللبنانية، إلى الحديث عن العمل من أجل «السلام العادل والدائم» الذي يجب أن يُبنى على العدالة لا على الظلم.

في الأثناء، أشاد بتركيا على «مساهمتها كجسر بين الشرق والغرب»، معتبراً أن هذا الدور «عامل استقرار وتقارب بين الشعوب، في خدمة سلام عادل ودائم».

ومن جهته، شدّد البابا على أن «الانحراف» الحالي يعني أن «الطاقات والموارد التي تمتصّها هذه الدينامية التدميرية تُسحب من التحديات الحقيقية التي ينبغي على العائلة البشرية اليوم أن تواجهها من خلال وحدة صفّها، ألا وهي تقاسم الخيرات، ومحاربة الجوع والفقر، وضمان الصحة والتعليم، وصون الخليقة».

وحثّ تركيا على أن تظل «ملتقى للحساسيات» وألا تستسلم لـ«التجانس الذي يمثل نوعاً من الإفقار». فـ«المجتمع لا يكون حيّاً إلا إذا كان متعدداً»، كما شدّد، موضحاً أن «الجسور بين مختلف الهويات فيه هي التي تصنع منه مجتمعاً مدنياً». وأضاف أن «المجتمعات الإنسانية اليوم تُدفَع أكثر فأكثر نحو الانقسام والتمزّق بفعل مواقف متطرفة تُجزِّئها».

وفي هذا المسار، داخل مجتمع يزيد فيه عدد المسلمين عن 99%، ذكّر رئيس الكنيسة الكاثوليكية بأن «الجماعة الصغيرة من المسيحيين هي جزء لا يتجزأ من الهوية التركية وتعيش هذا الانتماء». وطلب أنه «في مجتمع مثل المجتمع التركي، حيث يلعب الدين دوراً مرئياً، من الأساسي احترام كرامة وحرية جميع أبناء الله: رجالاً ونساء، من مختلف الجماعات». وهي رسالة غير مباشرة من أجل حماية حقوق هذه الأقلية المسيحية الصغيرة جداً.

وفي إسطنبول، حيث وصل ليون الرابع عشر مساء الخميس، ينوي أن يسلِّط الضوء أيضاً على هذا البعد المسيحي لتركيا – أليست هي البلد الذي استضاف «المجامع المسكونية الثمانية الأولى» في الألفية الأولى للمسيحية؟ كما ذكّر. ولا سيما هذا الجمعة، في احتفال ذكرى مجمع نيقية، بمدينة إزنيق اليوم، حيث وُضع قبل 1700 عام قانون الإيمان المسيحي، الذي لا يزال تعريفاً للإيمان المعترف به لدى الكنائس التي تتلوه كل أحد.

في مطلع القرن الرابع، أوكلت إلى هذا المجمع مهمة تحديد مضمون الإيمان المسيحي، لوضع حدّ للانقسامات التي كانت تهزّ الجماعات المسيحية في قلب الإمبراطورية. كان العدو المحدَّد هو الكاهن أريوس، ومعه عدد كبير من أتباعه، الذين لم يستطيعوا قبول فكرة أن يكون يسوع ذا طبيعة إلهية لأنه إنسان.

هذا الحدث بالذات هو ما يأتي ليون الرابع عشر للاحتفال به، يوم الجمعة في إزنيق، مع بطريرك القسطنطينية، برثلماوس. سيكونان على ضفاف بحيرة شاسعة حيث لا تزال أطلال البازيليكا القديمة التي انعقد فيها ذلك المجمع.

«نحن نتشارك الإيمان بإله واحد وأوحد، هو أب جميع البشر. نعترف معاً بالابن الوحيد والحق يسوع المسيح، وبالروح القدس الواحد. ما يوحّدنا هو حقاً أعظم بما لا يقاس مما يفرّقنا!» ليون الرابع عشر

ومع ذلك، لا بد من «السير معاً» للوصول إلى «الوحدة والشركة بين جميع المسيحيين». ومن هنا اقتراحه: «يجب أن نترك خلفنا الخلافات اللاهوتية التي فقدت سبب وجودها، لكي نكتشف معاً، من جديد، ما نملكه من مشترك، ولنعيد إلى قانون الإيمان دورَه كرباط حيّ لوحدة الإيمان».

ويضيف أن ما يقترحه ليس «عودة إلى الحالة السابقة وإلى الانقسامات التي مزّقت الكنائس الأرثوذكسية والبروتستانتية»، ولا هو «اعتراف متبادل بالوضع القائم وبالتنوّع الحالي للكنائس والجماعات الكنسية»، بل ما يسميه «مسكونية روحية»، تتميّز بـ«طريق الحوار، وتبادل مواهبنا وتراثاتنا الروحية». وهو يدرك أن الأمر «سيحتاج إلى زمن»، لكنه «تحدٍّ لاهوتي، وأيضاً تحدٍّ روحي، يتطلّب توبةً وتحوّلاً من الجميع». ويخلص إلى القول: «نحن بحاجة إلى حركة مسكونية روحية من الصلاة والتسبيح والعبادة، كما حدث في قانون الإيمان الذي صاغته كنيسة نيقية».

يقدّم البابا بذلك نوعاً من «المنهج» للمسكونية: ترك الكتب والجدالات في المكتبات، والدخول معاً إلى المصلّى لطلب عطية الوحدة من الروح القدس.

lo3bat elomam

Recent Posts

مستقبل القواعد الروسية في سورية بعد الأسد

أدّى سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 إلى تغيّر جذري في طبيعة الوجود…

3 days ago

الأب أداماكيس لا يمكن اخضاع الارثوذوكسية لمشروع دنيوي

إيمانويل أداماكيس، الذي مثّل طويلاً الكنيسة الأرثوذكسية، هو اليوم متروبوليت خلقيدونية، أحد أقدم الكراسي الأسقفية…

3 days ago

Le “privilège du blanc”. Rituel d’élégance et de diplomatie dans l’ombre du Vatican

Le privilège du blanc. Rituel d’élégance et de diplomatie dans l’ombre du Vatican Nadine Sayegh-Paris…

6 days ago

Les « Pyramides » d’Idlib. Héritage oublié de la Syrie byzantine !

Les « Pyramides » d’Idlib. Héritage oublié de la Syrie byzantine ! Nadine Sayegh-Paris Au cœur…

2 weeks ago

قمّة الحسم والأمل بين الرئيس والأمير

                             …

2 weeks ago

ما يجب معرفته عن لقاءِ ترامب والشّرع

المعهد الإيطاليّ للدراسات الدوليّة والسياسة ترجمة: مرح إبراهيم يُمثّلُ اللقاءُ التّاريخيُّ بين ترامب والشّرع في…

3 weeks ago