القوّة الناعمة السعوديّة في قلب إفريقيا

د.رانيا حتّي
في ظل التحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، تعتمد المملكة العربية السعودية سياسة توازن دقيق تهدف من خلالها إلى الحفاظ على موقعها كفاعل محوري في معادلات الشرق الأوسط والعالم. فالسعودية تمكّنت من بناء شراكات استراتيجية متعددة الاتجاهات، تجمع بين التحالف التقليدي مع الولايات المتحدة في المجالين الأمني والعسكري، والتعاون العميق مع الصين في مجالات البنية التحتية، التكنولوجيا، الطاقة، والتبادل التجاري.
على الصعيد الإقليمي، تنتهج المملكة سياسة “التموضع الحذر” بين القوى الإقليمية الكبرى، إذ تحافظ على قنوات الحوار مع إيران، وتعمل في الوقت ذاته على تعزيز علاقاتها مع تركيا، بما يعكس توجّهاً نحو تخفيف حدة الاستقطاب والانخراط في دبلوماسية الاتفاقات المرحلية. هذه الاستراتيجية، التي تقوم على مبدأ “التهدئة مقابل التنمية”، تهدف إلى تهيئة بيئة مستقرة لتنفيذ مشاريعها الجيو-اقتصادية الطموحة.
يبرز الامتداد السعودي نحو القارة الأفريقية بوصفه امتداداً طبيعياً للنفوذ الجيوسياسي والجيو-اقتصادي. فالسعودية تدرك الأهمية الاستراتيجية للقارة من حيث الثروات الطبيعية، المعادن، الأراضي الزراعية، والأسواق الناشئة، إضافة إلى موقعها الحيوي على ممرات التجارة والطاقة العالمية. وعليه، تسعى المملكة إلى الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، الموانئ، الطاقة والزراعة، ضمن رؤية تتكامل مع مشروع “رؤية 2030” الذي يسعى لتنويع الاقتصاد السعودي٦ وتوسيع مجال نفوذه الإقليمي والدولي.
في ظل التنافس المتصاعد بين القوى الكبرى على النفوذ في أفريقيا، مثل الصين، الولايات المتحدة، وروسيا، تحاول السعودية تقديم نموذج متوازن للتعاون يقوم على الشراكة التنموية والاستثمار طويل الأمد، وهو ما يعزز من مكانتها كفاعل استراتيجي في معادلة النفوذ على القارة.
شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا كبيرًا في الحضور السعودي داخل القارة الإفريقية، سواء على مستوى الاستثمارات المباشرة أو الشراكات الاستراتيجية. فقد أطلقت الرياض مبادرة استثمارية ضخمة بقيمة 50 مليار دولار في نوفمبر 2023، تستهدف قطاعات محورية كالسياحة، الطاقة، التعدين، والزراعة. كما بدأ القطاع الخاص السعودي بضخ 5 مليارات دولار ضمن خطة تمتد لعشر سنوات، تهدف إلى استثمار 25 مليارًا في القارة.
التركيز على القطاعات الحيوي
تركّز المملكة بوجه خاص على قطاع الموارد الطبيعية والتعدين، حيث أبدت اهتمامًا بشراء حصة 30% في مناجم النحاس في زامبيا، ضمن رؤية تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وضمان أمنها الصناعي. وفي قطاع الطاقة والزراعة، استثمرت السعودية 3 مليارات دولار في الزراعة الإفريقية، وسعت لتجديد مصافي النفط في نيجيريا، ضمن خطة لتعزيز الأمن الغذائي والنفطي على المديين المتوسط والطويل.
ويعكس حجم التبادل التجاري – الذي بلغ 74.7 مليار ريال سعودي في عام 2023 – مؤشراً واضحًا على تنامي الروابط الاقتصادية بين الطرفين، ما يثبت أنّ الحضور السعودي في إفريقيا لم يعد هامشيًا بل أصبح جزءًا من معادلة إقليمية أوسع. وأيضا في سياق التوسع الاقتصادي، تلعب شركة “أكوا باور” السعودية دوراً محورياً، إذ استثمرت أكثر من 7 مليارات دولار في مشاريع طاقة متجددة في إفريقيا. فقد بلغت محطة “كوم أمبو” للطاقة الشمسية في مصر 200 ميغاواط بينما تستعد محطة “ريدستون” في جنوب أفريقيا لبلوغ طاقتها القصوى البالغة 100 ميغاواط. يعكس هذا التوسع الدور السعودي المتنامي في دعم التحول الطاقي في القارة السمراء.
تمضي المملكة العربية السعودية نحو تعزيز مكانتها كقوة اقتصادية وجيوسياسية صاعدة، تجمع بين التحالفات التقليدية والانفتاح على الشراكات البديلة. ويشكّل حضورها المتنامي في إفريقيا نموذجًا على هذا التحوّل، حيث تستخدم أدوات القوة الناعمة لتعزيز دورها، دون الانخراط في صراعات مباشرة، بل من خلال شبكة من الاستثمارات، والاتفاقيات، والتحالفات الاستراتيجية. وبذلك، تؤكّد السعودية أنها ليست مجرد قوة نفطية، بل قطب إقليمي ودولي قادر على التأثير في معادلات التوازن العالمي.