هادي جعفر ( كاتب سياسي لبنان)
سطّرت الأيام الخمسة الأخيرة واحدة من أفظع قصص الانقسام السوري-السوري. السوريون الخارجون من مآسي حكم الأسد، ومن ثورة بدأت سليمة واغتُصبت بحرب دموية، فتّتت البلاد وتوزعت مراكز القوى فيها بين تركيا وروسيا وإيران وإسرائيل، هؤلاء السوريون ينظرون بقلق إلى دولة فتية، أسقط رئيسُها ما تبقى من حكم الأسد بالضربة القاضية. فأضحى المنقذ والبطل الذي اختُصرت فيه كل تضحيات السوريين، وكل لجان معارضتهم، وكل شيبهم وشبابهم الأوائل الذين خرجوا إلى الشوارع بصرخة “يلعن روحك”.
الدولة الفتية هذه، بعد أن بدّلت زيّها من عباءة و”شبشب” إلى بدلة وربطة عنق، أرادت أن تعطي العالم انطباعًا بأنها تمدّنت، ودرست، وفهمت ما يتطلبه بناء الدول، من مصالحة ومصارحة ومحاسبة وعدالة ومشاركة واحتكام للقانون والدستور.
ثم أتت اشتباكات السويداء، فسقطت البدلة في سلسلة من الأخطاء التي هشّمت صورتها.
وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو وصف الأزمة في بدايتها بأنها “سوء تفاهم”، وبحسب ما تسرّب، طلبت السلطة الانتقالية في سوريا من وفد إسرائيل في باكو أن تُمنح دمشق الضوء الأخضر لدمج السويداء بالكامل في هيكل الدولة السورية. وقد وافقت إسرائيل على ذلك.
اعتبرت السلطات الانتقالية في سوريا أن هذا كان ضوءًا أخضر من إسرائيل للسيطرة على السويداء بأكملها وقمعها، فاستغلت التوترات بين الدروز والبدو كمدخل لإرسال قوات الأمن العام إلى السويداء.
مشاهد قوات الأمن العام، التي تتألف في معظمها من مجندين جدد لا يشبهون القوات النظامية التي يعرفها الناس في أي دولة، وخبرتهم في التعامل مع المواقف ضعيفة، إضافة إلى ما لديهم من مخزون عقائدي يصل عند بعضهم إلى درجة تكفير الآخر وتحليل قتله، استفزّت الدروز ودفعتهم للمواجهة.
إسرائيل من جهتها، التي تريد جنوب سوريا تابعًا لسلطانها، أو بالحد الأدنى منزوع السلاح، اعتبرت أرتال الأمن العام عملًا عدوانيًا، مما أدى، إضافة إلى ضغط دروز الداخل الذين استعملوا كل أوراق القوة لديهم وأهمها حاجة نتنياهو الانتخابية إليهم، لقصف النظام الانتقالي بضربات “تأديبية” موجعة، لا تكسر خطوط الاتصال المفتوحة، على ما يبدو، لمباحثات التطبيع.
في التاريخ السوري، لطالما كان للسويداء دورٌ محوري في قيام الأنظمة في سوريا وفي إسقاطها.
ما لم يدركه النظام الانتقالي هو أن مفتاح الحل للأزمة يكمن في احتواء الدروز لا قمعهم، وفي إشراكهم لا إبعادهم، وفي تأكيد مواطنتهم لا تخوينهم.
وبعودة سريعة لبعض محطات التاريخ، نجد أن محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية عُرفت بالتمسّك بالهوية السورية ووحدة البلاد. فقد كانت معقلًا للثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش، حيث رفض دروز جبل العرب مشروع سلطات الانتداب الفرنسي إقامة “دولة جبل الدروز” المنفصلة، وأصرّوا على البقاء ضمن دولة سورية موحّدة.
في العام 1952، بعد أن نفّذ أديب الشيشكلي انقلابه الثاني، حظي باعتراف الدول العربية والعالم بحكمه، لكن سلطان باشا الأطرش لم يعترف به، ووصفه بالديكتاتور. ونُقل عن الشيشكلي قوله إن خصومه كالأفعى، رأسها في جبل الدروز وذيلها في حلب.
وفي عام 1953، اعتَقل الشيشكلي نجل سلطان باشا إثر احتجاجات تحوّلت إلى مواجهات دامية في جبل العرب، ويُروى فيها أن البدو في القرى الشرقية، وبتحريض من نظام الشيشكلي، صاروا يغِيرون على القرى الدرزية وينهبونها. ويذكر القاضي سلام بن جاد الله سلام، بحسب موقع التاريخ السوري المعاصر، أنه في عام 1954 حضر شقيق الشيشكلي مع قوة من الجيش وأفراد البدو المسلحين إلى القرى الدرزية وقاموا بإحراق المنازل وحلق الشوارب.
لكن، ورغم القوة وقمع الثورة في جبل العرب، شكّلت هذه الاشتباكات سبب سقوط نظامه، حيث بدأ الضباط يعترضون على القمع والوحشية، وقاد ضابط من حلب انقلابًا عليه، فغادر البلاد واستقر في البرازيل، حيث اغتاله مهاجر سوري “درزي” انتقامًا لأهله.
وخلال حكم آل الأسد، تشير دراسة لمركز كارنيغي للشرق الأوسط (2022) أن نظام الأسد اتّبع أسلوبًا حذرًا في تعامله مع السويداء عبر العقود. فمن جهة، كان مراعيًا لمشاعر الطائفة الدرزية باعتبارها أقلية ذات تضامن داخلي وروابط إقليمية، متجنبًا استفزازها قدر الإمكان.
ومن جهة استعمل سياسة الاغتيالات، وكرّس سياسة “فرّق تسُد” في الجنوب السوري. فعلى مدى سنوات، استخدم العشائر البدوية كورقة ضغط ضد المجتمع الدرزي في السويداء، ومنح بعض شيوخ تلك العشائر امتيازات أمنية وأدوارًا استخباراتية، وشجّع – وفق الرواية المحلية – نزاعات متقطعة بين الدروز والبدو خدمةً لأجندة تثبيت السيطرة. ومع الثورة عليه، لعبت السويداء دورًا هامًا في الحراك السوري، وتمرد أهلها على الخدمة الإلزامية في الجيش.
الاشتباكات التي بدأت بحادثة سرقة، وتوسّعت إلى أحداث دموية ذهب ضحيتها المئات، قابلها النظام الانتقالي بخطابات افتقرت إلى أسلوب الحاكم الجامع، الأبوي، لكل أبناء وطنه.
فكانت الخطابات والتصريحات الصادرة عن النظام الانتقالي تُخوِّن أهل السويداء وتكيل لهم، أو لجزء من نسيجهم، الاتهامات.
وهو ما ساهم أيضًا في شعور بالمظلومية والعزلة لدى أهل المدينة الذين يتعرضون لهجمة مسلحة شرسة من مجموعات البدو، وباتوا في مواجهة مع جماعات مسلحة ومع الدولة الجديدة.
وهذا أيضًا ساهم في التعبئة بين صفوف العشائر، وعزّز الصوت القائل بوجوب حماية النظام من المتآمرين عليه، فأصبح النظام في حماية العشائر ومواجهة الدروز، بدل أن تكون كل المكونات تحت مظلة وحماية النظام.
خطاب الرئيس الشرع في إعلان وقف إطلاق النار، ورغم المغالاة في وصف دور المسلحين من العشائر بالبطولي، إلا أنه حمل بذور الفكر الاحتضاني لكل مكونات المجتمع.
تقف سوريا اليوم في موقع محوري ضمن استراتيجيات الحكم في المرحلة الانتقالية؛ فهي اختبار لقدرة السلطات الجديدة على بسط الأمن عبر الحلول السياسية، وتغليب منطق الدولة القادرة والعادلة والحاضنة والمساوية بين مواطنيها، على منطق النظام القائم على الجماعة والغلبة وشيطنة الآخر من أبناء الوطن.
ولا خيار أمام أبناء سوريا بكل مكوناتهم، إلا بإتقان فن العيش المشترك و الانضواء تحت كنف هذه الدولة.
La pompe de terre : une invention qui fit jaillir l’eau de l’histoire Nadine Sayegh-Paris…
سامي كليب مشكورة الدول التي اعترفت وتعترف بالدولة الفلسطينية، فهذا حقٌ فلسطيني طال انتظاره، وأن…
بقلم : بيار جاكمان في مجلّة Politis منذ الهجوم البري الذي شُنّ غداة عملية حماس…
سامي كليب ثمة مؤتمراتٌ تدفع إلى الملل من لحظاتِها الأولى،…
Le sang, cette mosaïque invisible qui coule dans nos veines ! Nadine Sayegh-Paris De l’Antiquité aux…
عن دراسة بعنوان : تزييف التاريخ: السياسة البغيضة لإحصاء ضحايا غزة ريتشارد هيل وجدعون بوليا*…