بين محور إيران والسدّ السعوديّ الأخير

سامي كليب: افتتاحية : الصراحة أفضل.
حين تُكشف وثائق وتحقيقات الانهيار العسكري الواسع للقسم الأكبر من “محور المقاومة والممانعة” الذي رعته وساندته وموّلته إيران، من فلسطين الى لبنان مرورًا بسورية والعراق، وصولاً إلى اليمن، قد نعرفُ أنَّ الهوّة التكنولوجية، والاختراقات الاستخبارية، لم تؤخذ كثيرًا بعين الاعتبار من قبل المشرفين على الحرب الأخيرة، وأنَّ التدمير السريع مثلاً لقدرات حزب الله وقتلِ قادتهِ وفي مقدمهم الأمين العام السيّد حسن نصرالله، يُذكّر إلى حدّ بعيد بالضربة القاضية التي وجَّهها الجيش الإسرائيلي لطائرات الرئيس جمال عبد الناصر وهي رابضة في المطار، فأنهت الحرب قبل أن تبدأ.
صحيحٌ أنَّ المقاتلين الشباب على الأرض، أكانوا في غزّة أو لبنان، تخطّوا منطق الحروب العسكريّة، وقاتلوا حتّى الرمق الأخير، لصد أعتى جيش احتلال وإبادة، والمدعوم من كل الآلة الاستخبارية والعسكرية الأطلسية، والمدعوم أيضًا بعدم قدرة المحور العالميّ الثاني بزعامة الصين وروسيا، أو ربما عدم رغبته بالتدخل الفعلي لصدّ إسرائيل، لكن الصحيح أكثر، هو أن الأخطاء الاستراتيجية الفادحة التي ارتكبها المحور، وإحجام إيران عن التدخّل المباشر لمنع مذبحة محورها من الوريد الى الوريد، أمورٌ طوت صفحةَ المحور إلى فترة طويلة، وربما نهائيًّا.
لم يكن اتفاقُ وقفِ إطلاق النار في لبنان انتصارًا، ولو كُشفت الوثائق، سنكتشف أنَّ الذي صاغه من الجانب اللُبنانيّ بتكليفٍ مباشر من إيران وحزب الله، هو رئيس مجلس النوّاب نبيه بري منفردًا، وسنكتشف أنَّ الحزبَ نفسه فوجئ بالصياغة النهائيّة، لكن ما كان باليد حيلة، فالرئيس بري الذي نجح في تدوير كلّ الزوايا الأميركية والغربية والعربيّة، أدرك بعد الضربات الكُبرى الأولى من قبل إسرائيل، أنَّ أيَّ اتفاقٍ سيكون خشبةَ انقاذٍ لما بقي من قدرات الحزب ودرءًا لتدمير القسم الأكبر من ممتلكات ومؤسسات البيئة الشيعية وقسمٍ كبيرٍ ايضًا من لُبنان.
لن يكون من السهل، قبل مرور زمنٍ طويل، تقديم قراءة دقيقة وموضوعيّة لأسباب هذا الانهيار، وقد باشر الحزب نفسُه قبل غيره، في تقييم حجم الكارثة، وهو يُدرك تمامًا أنَّ ترميم ما حصل بات كبيرَ الصعوبة، بعد أن سقطت سورية من معادلة المحور، وأُقفلت الحدود، وتسارعت الخطوات لسحب سلاح الحزب بالقوّة أو الاغراء والاقناع. فالحزب يعرف تمامًا قبل غيره، أنَّ بنيامين نتنياهو لن يتردّد لحظة في العودة إلى حربٍ أوسع وأكثر تدميرًا وشراسة، لو ظهرت أيُّ مؤشراتٍ على انتعاش الجانب العسكريّ عند الحزب، وستكون أميركا دونالد ترامب جاهزةً للمشاركة في القتال، في صورة تُذكّر تمامًا بما كان عليه حالُ منظمة التحرير والفصائل الفلسطينيّة بعد حرب 1982.
ثمة مرحلة عسكريّة طويت تمامًا ولسنواتٍ طويلة مُقبلة، لكن، بعيدًا عن الجدل اللُبناني-اللبناني الداخلي عديم الفائدة، والذي يدفع خصومَ الحزب إلى الاعتقاد بأن نكسته العسكريّة الكُبرى، انتصارٌ بديهيٌ لهم، فالآن فُتح البازار السياسيّ على مصراعيه، والشيعةُ في لُبنان طائفةٌ كبيرة، وتتمتَّع بمقوّماتٍ كثيرة اختلفت تمامًا عمّا كان وضعُها قبل أربعين عامًا، لديها مؤسساتُها ونخبة كبيرة من المتعلمين في أفضل الجامعات، ولها تشعُّباتُها الإقليمية والدوليّة من افريقيا حتّى ميشيغان الأميركية، ثم لها قاعدة شعبية وانتخابيّة واسعة.
يضاف إلى ذلك، أن الدول الراعية للُبنان حاليًّا، والتي ناصب بعضُها العداء الكبير لحزب الله واتّهمه بتصدير الإرهاب والكبتاغون وغير ذلك، لا تطمح أبدًا إلى تهميش الشيعة، أو إلى دعم طائفةٍ أخرى على حسابِهم. ولنتذكّر تمامًا، أنّه حين اقتضت مصالحُ الولايات المتحدة الاميركيّة في العراق تسليم البلاد للشيعة واقصاءَ السُنّة، لم تتردّد واشنطن في ذلك، وأنهت حزبَ البعث والجيش العراقي بشخطة قلم، وصاغت الدستور بما يقلب كل المعادلة.
ولعلّ السعوديّة نفسَها، التي كانت ولفترة طويلة هدفًا دائمًا لخطابات أمين عام حزب الله ، في مراحل عديدة، خصوصًا بعد حربي سورية واليمن، حريصة، وفق ما يشرح العارفون في كواليس دبلوماسيتِها الناشطة، على دور الشيعة ومكانتهم في الدولة اللُبنانية والمنطقة، ولكن مع الدفع باتجاه تعزيز الخيار العربي للشيعة وليس الخيارات الفارسيّة الإيرانية، والدفع طبعًا باتجاه التخلي عن السلاح والانخراط بالدولة اللُبنانيّة، وهذا يفترض المساهمة في مشاريع اقتصادية كُبرى في المرحلة المُقبلة، تستعيد الفكرة القديمة التي طرحها رئيس الحكومة السابقة الشهيد رفيق الحريري ( وبدعمٍ سعوديّ آنذاك)، بأنّ انعاش اقتصاد لُبنان سيدفع الشباب، بمن فيهم شباب البيئة الشيعية، للبحث عن أفق آخر غير السلاح.
تفترض هذه الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية، ضغطًا كبيرًا على إسرائيل للانسحاب من الأراضي اللُبنانية المحتلّة، مع ضماناتٍ بعدم اعتداء العدو على لُبنان، ذلك ان التجارب السابقة مع الاحتلال، اثبتت أنّه يراوغ ويتنصّل من كل الاتفاقات، ويغدر حين يستطيع الغدر.
تفترض هذه الاستراتيجيات أيضًا، ضبط الوضع السوريّ والدفع نحو استقرار سياسيّ حقيقيّ في سورية من جهة، وترتيب علاقاتٍ ثابتة مع لُبنان، وهذا ما دفع الرياض للمباشرة بالتعامل مع البلدين سورية ولبنان كدولتين سيّدتين مستقلّتين، خلافًا لما كان يحصل في السابق، من التعامل مع لُبنان كدولة تابعة بالقوة للقرار السياسي رغم كل المحاولات العربية لمنع ذلك. لاحظوا مثلاً كيف استقبلت الرياض وزيري دفاع لبنان وسوريا بعد التوتّر الأخير.
سيكون المحك، والفيصل إذًا، في ثبات الموقف السعوديّ حيال نتنياهو. فالرجل الذي دفعته ضرباتُه العسكرية الموجعة للمحور، إلى أقصى درجات الغرور والتوهّم ببناء شرق أوسط كبير وجديد بلا دولة فلسطينيّة، يصطدم بالسدّ السعوديّ الأخير الذي يربط أي تطبيعٍ بقيام دولة فلسطينية مستقلّة، كما يربط ضمنًا ذلك بانسحاب إسرائيل من لُبنان ووقف اعتداءاتها على الأراضي السورية.
الثبات السعودي كبير الأهميّة في المرحلة المُقبلة، ذلك أن رفض السعودية الذهاب نحو التطبيع بلا حلٍ للقضية المحوريّة، أي قيام دولة فلسطينيّة، هو الوحيد القادر اليوم على اقناع الرئيس دونالد ترامب برفع مستوى الضغط على نتنياهو لتعديل مجاري الرياح. ثم إن السعوديّة التي وصل حجم تبادلها السنوي مع الصين إلى أكثر من 116 مليار دولار، وارتبطت بعلاقاتٍ قوية ومتوازنة مع روسيا وأوكرانيا، وتفاهمت مع إيران، باتت حاليًّا، وبعد تراجع المحور الذي تقوده إيران، في الصف الأمامي لإحياء مشروع عربي عقلاني وصلب بالتعاون مع دول عربية وإسلاميّة كبرى وفي مقدمها مصر، للدفاع عن فكرة إقامة دولة فلسطينيّة تبدو بالنسبة لكثيرين اليوم وهمًا.
هل تنجح السعوديّة في ذلك؟
المغامرة صعبة ومعقّدة بين رئيس وزراء إسرائيلي يتصرّف كمنتصر ويستند الى تيارات توراتية ومسيحانية وغيبيّة، ورئيسٍ أميركي يعتبر نفسه سيّد العالم بلا منازع ولا يهمّه أن يقلب الطاولة في أيّة لحظة، ويدعم إسرائيل مهما فعلت. ولذلك فإن الصورة ستصبح أكثر وضوحًا، بعد ان يعرف العالم ابتداء من هذا السبت (أي بعد مؤشرات المفاوضات)، هل يتجه ترامب إلى صياغة اتفاقٍ حقيقيّ مع إيران المضطّرة لتقديم تنازلتٍ حقيقيّة بعد انكسار جزء كبير من قدراتها في المنطقة، أم يعطي الضوء الأخضر لحرب نتنياهو على طهران، ما يعيد انتاج مرحلة عسكرية خطيرة على كل المنطقة، وفي حالتي التفاوض ام الحرب سيكون الحزب امام خطر وجودي حقيقي ..
المهم في هذه المرحلة بالذات، هو تشكيل موقف عربيّ اسلاميّ داعم للموقف السعوديّ-المصري في قضيّة فلسطين، لانَّ المرحلة المُقبلة، وبعد انقشاع غبار الحروب تتطلّب فكرة جديدة لمرحلة جديدة مختلفة تمامًا عن كلّ ما سبق.