تراجيديا السّاحل : عندما تُقتلُ مرّتين

مرح إبراهيم
ثلاثة أشهر مرّت على اللحظة النفسيّة التي جسّدتها ليلة الثّامن من كانون الأوّل في تاريخِ سورية. لحظةٌ يطول الحديثُ عنها بكلّ ما حملت من مفارقاتٍ، بين الفرحِ والعار، الانعتاقِ والانسلاخ، “التحرير” والاحتلال.. تناقضاتٌ جعلت المشهد كالحَ الوقع، فيما بلغ المحتلّ الصهيونيّ مشارفَ العاصمة على وقع رقصة التحرير، وبدأت ملامحُ لعبة الخارج ترتسمُ شيئًا فشيئًا على وجه البلاد. تجلّت أولى صور الحريّة أمامَ أقبية السجون والنسائم الأولى بعد سنونِ الغياهب.. لحظةٌ تاريخيّةٌ يطول الحديثُ عنها…لكن بعد حين…
في تلك الليلة، كانت كلمة “حريّة” تسودُ المنابر بسطوة “المحرّر”، مثيرةً حولها ألف سؤالٍ في ارتباك المعنى… لوهلة، تجلّى أحد المعاني بتحرّرِ فئةٍ من فئات المجتمع، تسمّى طائفة، من صبغةِ السّلطة الحاكمة التي قُرنت بها بهتانًا طيلةَ عقود. لوهلة، آمنت هذه الفئة أنها تتخلص اليومَ من تلك الصّبغة الراسخة، مانحةً الثقةَ للجديدِ بالأمان والسلام والعدل، لاجتياز المنعطف…لكنْ، سرعانَ ما بدت ملامحُ الشّبح القادم. حربٌ خفيّة وجرائم مرّت مرور الكرامِ تحت مسمّى “حالات فرديّة”، دونَ أدنى تحقيق أو تحرٍّ، إذلالٌ صريحٌ لم تستطع الّتوصيات بعدم التصوير والتوثيق طمسَه.. إقالاتٌ تعسفية بعشراتِ الآلاف، لابل أكثر، تركت عائلاتٍ بأكملها لمصيرها، دون دخلٍ أو إعانة، ممارساتٌ ربّما لم يشهد لها القانونُ الدوليّ سابقةً بعد. مؤسّساتٌ عديدةٌ حُلّت وأقصي كلّ موظّفيها البسطاء، ناهيك عن ذوي الشّهداء… الشّهداء الذين حرّرهم العهد الجديد من صِفَتهم ورمى بأسمائهم في خانات الانشقاق والخيانة.
ويا ليتها بقيت حربَ كلماتٍ يكتبها “المنتصر”…
سقطت تهمةُ السّلطة لتظهر خلفها تهمة العقيدة، ثمّ وقعَت المأساة، مأساةٌ فاقت التصوّرَ والخيال، وكأنّ ما حلّ بسورية طيلة 14 عامًا من الرّعب لم يشفِ غليلَ الفتن. عادت ذاكرة الحرب التي عصفت بسورية كاملةً ولم تستثنِ من ظلامها أحد. السّاحل، شرفتنا على الأفق، كم ضاقت به الأفق يومَ أضحى صدىً لأعماق البحار المتخمة بأرواح الهاربين نحو الخلاص…14 عامًا من الحرب على سورية، بشمالها وجنوبها، بشرقها وغربها..14 عامًا من الدّمار والحصار والحرمان والتهجير، احتضنَ السّاحلُ بحبٍّ كلّ من لجأ إليه. لم نسمع يومًا بإقصاءٍ أو اضطهادٍ لمن قصدَه… “في بلدهم وعلى أرضهم” يقولون. ذابَ كلّ من لجأ إلى ساحل بلده في نسيج مجتمعه، كما اعتادت سورية أن تكون على مرّ العصور.
وكحكاية كلّ سوريّ، كم من عائلةٍ فقدت في السّاحلِ ابنًا واثنين وثلاثة…رحلوا أو فُقدوا أو ربما لا يزالون في أقبية السجون التي استثنتها ليلة التحرير. وأمّا أصحاب الموقف فلم تستثنهم سجون الرأي لأنهم من هناك ولا كافأتهم المناصب يومًا لأنهم من هناك…بل قُرنوا بأعلى الهرمِ لمجردِ أنهم من هناك..
اليوم، يتشح السّاحل بالسّواد، بعدما غدرت الوحشيّة فيهِ بالطفولة والشّباب والكبار، بالعِلم والثقافة وحبّ الحياة، تحت وضاعة المسمّى : مسمّى الـ” فلول”.. أولى بصمات العهد الجديد في “سوريا الجديدة”.. بصمةٌ دمويّةٌ لا مثيلَ لها، في منطقةٍ شهدت قبلَ اليومِ مجازر مروعة في خضمّ الحرب، شرّد أهلها ويتّم أطفالها على أيدي الظلاميّينَ أنفسهم.. جرائم مرّت مرور الكرام على مرأى العالم وصمتِ إعلامه. اليوم، على خلفيّة خارطة سوريةَ السّوداء، أرادوا الساحلَ أحمرَ اللون في الشّهر المبارك…نعم في سورية، حيثُ كان لفظ “طائفة” عيبًا وعارًا، بات الدم على الهوية حكايةَ كلّ يوم… وإذا عوّلتَ على تعاطفِ السوريِّ مع السوريّ عندَ الفِتن، أتاكَ الغريبُ من كلّ حدبٍ وصوب، جاءَ للقتالِ على أرضكَ باسمِ “الجهاد”، ليغتالَ ما تبقّى من أمل.. كيفَ طالَ خطاب التّحريض مهدَ التنوّع والتناغم؟ كيف؟ وكم جريحٌ معنى الأقليّة على أرضها.
ثمَّ تعبرُ أفواجُ الفرح حدادَ المدن، احتفاءً بالدّمج والاتّحاد، والجثامينُ لا تزال طريحةَ الشوارع.. يخطبونَ في الوطن والمواطنة، في السّلم والعدالة، ونحنُ في طور التساؤل عن ماهيّة الإنسان في هذه البقعة الحزينة…عن عقيدة القتل في الأعماق…عن كيفية بناء الإنسان وسط كلِّ التشوّه والدّماء…
تلتفتُ حولك، باحثًا عن بصيصِ أملٍ آخر، عن صدى الحريّة التي تتردّدُ على مسامعك في كلّ عبارة، فلا تجدُ في داخلك سوى الرّفض، رفض تقسيم الخارطة على دماء من رحلوا.. رفض اغتيال الذاكرة والهويّة.. الرفضُ على يدِ تلكَ الأم الثكلى في وجهِ قاتلي أبنائها : “فشرتُم”… لم تكن تدركُ أنها عكَسَت صورة ساحِلها الجريح وصوتَه أمام الألم، فهوَ مثلكِ أيّتها الكبيرة : قُتلَ مرّتين.