الحدث السوري والغرائز المتوحشّة منذ الثمانينيات حتّى اليوم

سامي كليب:
كتب عالِم النفس الشهير سيغموند فرويد منذ عقودٍ طويلة : ” إن الإنسانَ ليس كائنًا لطيفًا ومحبًّا لجاره وللآخر، بل على العكس تمامًا، يمكنه أن يكون أكثر وحشيّة حيال الآخرين” وقال في كتابه ” Civilization and its discontents” :” إن التمدّن ليس أكثر من قناع هش يخفي الغرائز الوحشية”. يُمكن إسقاط مقولات فرويد هذه على ما تشهده سورية حاليًّا من غرائز متوحّشة تضربُ عميقًا في الساحل السوري، تحت شعاراتٍ طائفية ومذهبية مقزّزة، ويذهب ضحيتها مئات الأبرياء من المدنيين والأطباء والأساتذة والناس العاديين. لكن يمكن اسقاطُها أيضًا على ما كُشف من غياهب السجون السورية المقزّزة منذ المجازر الشهيرة في حماه وغيرها منذ ثمانينيات القرن الماضي حتّى اليوم. هي رغبات الانتقام نفسها من الآخر لأنه آخر، بغض النظر عمّا إذا كان مُرتكبًا جريمةً أو بريئًا سيق بجرائم نظرائه، أو كان عابِرًا من هناك بالصدفة.
لم يخطئ أبدًا توماس هوبز حين قال في كتابه الشهير ” Leviathan”، إن البشر بطبيعتهم محكومون بغرائز أنانيّة وعدوانيّة، وإنّهم بحاجة إلى سلطة قوية لكبح الغرائز.” لكان كان ينبغي إضافة عبارة ” سلطة قوية وعادلة”، ذلك أنّ السُلطة في مراحل عديدة من تاريخ البشر، نظرت الى جزء من شعبها أو إلى معارضيها على أنّهم ” الآخر”، وصبّت كل جورِ غرائزِها على هذا الآخر.
ما تشهده سورية حاليًّا من مجازر بحق هذا الآخر الذي صودف هذه المرّة أنّه ” علويّ”، هو نسخة طبق الأصل عن الغرائز البشرية التي عرفتها الحرب الأهلية في لُبنان، والحرب الطاحنة بين الأشقاء في السودان أو ليبيا او الجزائر، وصولاً الى مجازر الهوتو والتوتسي في رواندا، والخمير الحمر في كمبوديا، والمسلمين والصرب في يوغوسلافيا قبل تفكّكها بإرادة دولية رُبما تريد اليوم أيضًا أن تفكك سورية. وهي صورة طبق الأصل عن المجازر التي يرتكبها الاحتلالُ الاسرائيليّ بحق الفلسطينيين دون أي تفرقة بين من هو من حماس او الجهاد ومن هو البريء من الأطفال والنساء والشيوخ.
” الفلول” كلمة مطاطة جدًا، تبدأ بتوصيف من حاول الانقلاب على سلطة أحمد الشرع نقمةً أو رُبما بدعم خارجي، وتصل إلى طبيب بريء كان بالصدفة واثقًا من أن العهد الجديد لن يسمح للرعاع بالدخول الى بيته وقتله بدمٍ بارد. الا يُشبه الأمر حالة ذاك الطبيب المسيحيّ الذي اعتقد في خلال الحرب الأهلية في لُبنان أنَه، وبسبب انتمائه اليساريّ، لن يتعرّض لأي أذية لو بقي في بيروت الغربية، فوجد قتيلاً أمام بيته من رعاعٍ آخرين قتلوه لأنه مسيحي، تمامًا كما أنَّ الرعاع الآخرين قتلوا مسلمين في بيروت الشرقية لأنَّهم مسلمون، ناهيك عن تذابح الدروز والمسيحيّين في الجبل، والسنّة والعلويين في شمال لُبنان. لا بل أن الآخر صار في خلال الحرب الأهلية اللُبنانية داخل المذاهب نفسها، فنذكر تقاتل المسيحيّين وانقسامهم على بعضهم البعض ومذابحهم، وتقاتل الشيعة (حتى بين أمل وحزب الله) ومذابحهم…الخ.
هذه هي طباع البشر، وقد صدق الفيلسوف فريدريك نيتشه حين قال:” إنّ في كلّ إنسان وحشًا نائمََا، وإذا حركّته، فقد يستيقظ بكلّ وحشيته” وهو يرى في كتابه ” هكذا تكلّم زرادشت”، أنَّ الإنسان يخفي وحشيتَه تحت ستار الأخلاق”. كم مرّة نسمع القائد المُفدى هنا وهناك، والزعيم الأوحد، والحاكم الموصوف بالعدل والحكمة، ينثرون خطابات الأخلاق والإنسانية، بينما هم في سرّهم مسرورون حيال مؤيديهم الذين يقتلون الآخر بناء على الغرائز البشريّة المتوحّشة.
علينا الاعتراف بأن البشر، تمامًا كما قال آرثر شوبنهاور:” هم مثل الذئاب يتربصون ببعضهم البعض”، وبأنَّنا ” لسنا حضاريّين الا بقدر ما ننجح في كبت غرائزنا الوحشيّة” كما كان فرويد يقول. وعلينا الاعتراف أيضًا بأن ” أبشع ما في الحروب أنّها تجعل الأشرار يبدون أبطالاً” وبأنَّ ” الوحشية الحقيقية لا تظهر في تصرفات المجرمين، بل في القدرة على تبرير جرائمهم” كما قال دوستويفسكي .
ما يحصل في سورية اليوم من جرائم في وضح النهار وأمام كاميرات وسائل التواصل الاجتماعي ( وليس الشاشات التقليدية)، تكرار لمجازر أخرى ارتكبت في سورية ضد الاخوان المسلمين حين حاولوا الانقلال على عهد حافظ الأسد، وهي تكرار لمشاهد الحرب الأهلية في لُبنان، ولمجازر إسرائيل في غزة، ودول عديدة أخرى في العالم، وغالبًا ما يفيد منها الجميع سوى الدول التي تغرق بالمجازر. والحل الوحيد هو بقيام مشروع سياسي حقيقي بدعم عربي ودولي، يُشرك الجميع في بناء الدولة، ويطوي صفحة الأحقاد كما حصل في جنوب افريقيا والمغرب والجزائر وغيرها، وإلغاء المسافة مع الآخر، ( وهو المشروع الذي فشل بشّار الأسد في الذهاب صوبه عنادًا أو اعتدادًا) . فهكذا مشروع هو وحده الكفيل في وأد تلك الغرائز البشرية المتوحشّة في مجتمع تدرب الكثير من أبنائه على القتل والانتقام في خلال الحرب التي امتدت 15 عامًا.
ما حصل هو وصمة سوداء في تاريخ العهد الجديد، لكنّ أحمد الشرع يستطيع، لو أراد، الذهاب اليوم قبل الغد الى الساحل السوري، واستعادة خطاب يُشبه ذاك الذي قاله الإمام موسى الصدر اثناء هجوم الرعاع على دير الأحمر في لُبنان، حين خاطب المقاتلين قائلا ” إن كل طلقة تطلق على دير الأحمر أو القاع، انما تطلق على بيتي وعلى قلبي وعلى أولادي”…. ويستطيع أحمد الشرع، لو أراد، فتح تحقيقٍ جدي وبغطاء عربيّ ودوليّ حول ما جرى، لمحاسبة المسؤولين ولكشف ما اذا كان ثمة انقلابُ كان يُعدّ وما إذا كانت ثمة دولة أو دول تقف خلفه ( لقطع يدها). لم يفت الأوان بعد، لكنّه قد يفوت، فالكثير من الذئاب تتربص بكل الشعب السوري وليس بالعلوي او السني او الدرزي او المسيحي أو غيرهم، وتريد تقسيم الوطن الذي فيه أقدم مدن مأهولة في تاريخ البشرية، وفي حناياه أبرز وأهم الحضارات البشريّة.