آخر خبر

غرامشي يشرح انقياد الجماهير طواعية الى عبوديتها

روزيت الفار-عمّان

أنطونيو غرامشي  الذي تأثر به كثيرون ومنهم المفكّر إدوارد سعيد؟ كيف يمكننا إسقاط أفكاره على واقعنا العربي ؟

هو المناضل والمفكّر والفيلسوف والكاتب والسّياسي والنّاقد والصّحافي الإيطالي الماركسي، المولود في سردينا عام 1891 الّذي تصدّى للفاشيّة وعمل لأجل النّهوض بالطّبقة العاملة الّتي عايش نموذجاً منها في تورينو، مكان دراسته الجامعيّة. متأثّراً بفكر كارل ماركس، انضمَّ غرامشي للحزب الإيطالي الشّيوعي منذ تأسيسه.

عاش في بلاده زمن الفاشيّة بزعامة بينيتو موسيليني والّذي اتّهمه بالخيانة وأمر بسجنه؛ رغم تمتّع غرامشي بالحصانة لكونه برلمانيّاً يمثّل الشّعب. لم تمنعه ظروف السّجن القاسية، الّتي عاشها غرامشي وكذلك حالته الصّحيّة المتدهورة، من كتابة أهم أعماله وهي ما عُرِف “دفاتر السجن” الّتي تجاوزت الثّلاثين دفتراً. وضع فيها غرامشي أفكاره وفلسفته ونقده وتحليلاته في العديد من المواضيع المهمّة الّتي تناولها بأسلوب دمج فيه النّظريّات والممارسة معاً، فهو لم يفصل يوماً في فلسفته بين العنصرين.

أصبح غرامشي بعدها مرجعاً مهمّا للعديد من الفلاسفة والمفكّرين وأكثر الفلاسفة الإيطاليّين والعالميّين اقتباساً؛ وأُعتبر أحد كلاسيكيّات الفلسفة السّياسيّة الّتي لا يمكن للقارىء العادي تبسيط فهمِه لها أو للمفاهيم المرتبطة بها. لكنَّ عمق هذه الفلسفة والفكر لم يمنعا الدّارس من تلمّس مظاهر عظمة الجانب الإنساني فيهما.

لم يتطرّق غرامشي لأيّ من المواضيع العابرة، بل كانت جميعها ضروريّة للفترة الّتي عاشها بل وباتت فلسفته صالحةالتّطبيق لأزمنة لاحقة؛ إذ لا نزال نحن العرب وغيرنا، نستردّها باستمرار، وخاصّة في هذه الأيّام الصّعبة الّتي تعيشها الأمّة. اشتهر غرامشي بنظريّاته حول الهيمنة Hegemony، وخصوصاً الثّقافيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة واعتقد بأنّ السّجن العقلي الّذي انتجته، أشدّ خطورة من السّجون الفعليّة الّتي أنشأتها النُّظم الفاشيّة.

تحدّث عن هيمنة الطّبقة الحاكمة تجاه رعاياها، وتطرّق للنّوع الأوسع المتعلّق بهيمنة الدّول الكبيرة على دول أخرى أقلّ وأضعف منها. وأدرج تحت هذا السّياق موضوع المثقّف (المؤثّر) ودوره في تنفيذ مهمّة الهيمنة. وفرّق بين المثقّف العادي والمثقّف العضوي وهو حسب غرامشي -الّذي يمارس دوراً حيويّاً مهمّاً في تكوين أيديولوجيا المجتمع؛ إمّا لدفعِه للأمام وتطويره، حين يمثّل المثقّف شريحة تقدميّة حداثيّة من المجتمع، أو لفشله وتدهوره، عندما يمثّل شريحة محافظة رجعيّة.

فالمثقّفون هم شريحة، وكما يقول غرامشي، يجب أن تمثّل كافّة الفئات المجتمعيّة وتكون لسان حالها النّاطق باسمها.

 يعتقد غرامشي “أنّ جميع الأفراد لديهم قدرة على التّفكير لكن دور المثقّف أو المفكّر؛ ليس شأناً يمتاز به الجميع”

وعن الهيمنة، أفاد بأنَّ الأصل فيها هو القبول أي أخذ الجماهير لها عن طيب خاطر وتسمّى هنا القيادة. وفيها تقوم الطّبقة الحاكمة، ومن أجل الحفاظ على قبضتها على السّلطة تجاه رعاياها، بنشر وتمرير قِيَمها ومفاهيمها وثقافتها الّتي تتماشى مع مصالحها عبر مؤسّسات المجتمع المدني كمؤسّسات التّعليم والدّين ووسائل الإعلام والنّقابات، دون الاضّطرار إلى استخدام العنف والقوّة. وهو ما يطلق عليه “هيمنة القوّة النّاعمة”. وبهذا الأسلوب هي توهم الجماهير بأنَّ اختياراتهم جاءت حرّة وغير مقيّدة وعليهم أخذها دون تدقيق والنّظر إليها على أنّها بديهيّة تتماهى ويقبلوها ليس على أساس استغلالي بل على أنَّها عاديّة وطوعيّة وتصبح هذه الجماهير حاملة لثقافة الدّولة الّتي تكوّن هويّتها وتهيمن على بقيّة الثّقافات.

 تقوم الطّبقة الحاكمة هنا بتوظيف المثقّفين للقيام بهذه المهمّة وخصوصاً للضّغط من أجل فرض رأي لا يحظى بشعبيّة. أمّا مؤسّسات المجتمع السّياسي كمؤسّسات الجيش والّشرطة والأجهزة المركزيّة، فللطّبقة الحاكمة هنا سيطرة مباشرة أو هيمنة على رعاياها.  ومهما اختلفت التّسميات، سواء كانت قيادة أم هيمنة، يكون الهدف بالنّهاية واحداً، وهو إحكام السّيطرة. وفي حال فقدت الطّبقة الحاكمة “القبول” أي لم تعد تقود، بل تسيطر وتستخدم القوّة وحدها، فهذا يعني لدى غرامشي، أنّ غالبيّة الجماهير بدأت بالتّحرّر من الأيديولوجيا التّقليديّة ولم تعد تؤمن بها.

*إنّ ما تقوم به الولايات المتّحدة الأمريكيّة عبر مؤسّساتها الإعلاميّة ونشر المثقّفين المناهضين للإسلام والّذين تمَّ تكليفهم بتبرير الحرب الّتي تشنّها إسرائيل على فلسطين وغزّة حاليّاً وبقيّة دول المنطقة، والّتي بالأصل بعيدة عن أي مبرّر أخلاقي يتيح لها القيام بها، لهوَ مثال صريح على ممارسة الهيمنة الثّقافيّة على الشّعوب الأمريكيّة وشعوب العالم*.

يُذكر أنَّ البروفيسور إدوارد سعيد، المفكّر العربي الفلسطيني المولد، كان يحمل القضيّة الفلسطينيّة في أعماقه ويدافع عنها بجميع كتاباته وأعماله وفي كل المحاضر. ويُعتبر خير ممثّل للمثقّف العضوي الّذي آثر أن يسخّر كل ما كان يتميّز به من مكانة علميّة وأدبيّة وأكاديميّة وبحثيّة لخدمة الحق الفلسطيني وفضح تزوير مغتصبي أرضه. سعيد، هو أحد المفكّرين الّذين تأثّروا بغرامشي وحملوا فكره. بدا ذلك واضحاً في كتابه "الاستشراق"، الّذي يخبرنا فيه بأنَّ الهويّة المهيمنة الّتي تحدّد الثّقافة الأوروبيّة هي الّتي لا ترى نفسها إلّا من خلال مقابلة الآخر المشرقي، والّتي تستند إلى مزاعم التّفوّق الأوروبّي الغربي مقابل التّخلّف الشّرقي عبر ما تدّعيه من موضوعيّة ونهج علمي لإثبات ذلك التّخلّف الّذي

تنسبه للمشرقيّين وخاصّة العرب والمسلمين، في تبرير هيمنتها الثّقافيّة. كما وتأثّر بالفيلسوف الفرنسي فوكو حيث انتقد سعيد السّلطة مركّزاً على سلطة الاستعمار ومحاولاً إثبات أنَّ المعرفة والثّقافة الّتي أنتجها الاستعمار؛ مجرّد معرفة مُضلّلة لا يمكن الوثوق بها، ودأب على التّصدّي للصّورة الجائرة الشّائعة في الإعلام الغربي والأمريكي عن فلسطين والعرب.

استند سعيد  بكثير من كتاباته في النّهج النّقدي والتّتبّعي على غرامشي وفوكو في اعتبار مرحلة الاستعمار لم تنتهِ إلّا بعد أن نجح الاستعمار بوضع تصوّرات ذهنيّة محدّدة في شعوب دول ما بعد الاستعمار. بمعنى أنَّ الاستقلال؛ وإن تمَّ نظريًّا، فإنّنا في الواقع لا نزال مقيّدين ضمن أطر التّصوّرات والتّعريفات الّتي تركها المستعمر لنا ولهويّتنا.

لا يمكننا أن نوقف الحديث عن إدوارد سعيد دون الإقرار ببعضٍ ممّا حقّقه للقضيّة الفلسطينيّة، ألا وهو قدرته الفرديّة على تغيير الطّريقة الّتي ينظر بها العالم إلى فلسطين. فهو جعل نقد الصّهيونيّة شائعاً بالفعل في بعض الدّوائر الأكاديميّة ومعمولاً به من النّاحية العمليّة.

يشدّد سعيد على أنّ التّاريخ لا يرحم إذ لا يتضمّن قوانين ضدَّ المعاناة والوحشيّة ولا يتوازن ليعيد شعباً وقع عليه أفدح أنواع الظّلم والقهر، لمكانِهِ المشروع في العالم. إلّا أنَّه لا ينبغي إساءة فهم ما قاله على أنّه رسالة يأس. فسعيد ليس بالمفكّر العاطفي، إنّما يقتدي بالمفكّر غرامشي في نظريّته حول قدرة الإرادة على إبقاء التّفاؤل والأمل حيّاً في مواجهة التّشاؤم، ألا وهي: تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.

يضيء غرامشي شمعة في ظلام ما تعيشه أمّتنا من إحباط ويأس، ويشرح الدّور المهم للتّفاؤل المرتبط بالعمل والإرادة في مواجهة كلّ التّحدّيات؛ حتّى تحقيق الحلم. ويتساءل إذ ما كان هناك حاجة للتّفاؤل عند بحبوحة العيش ومواءمة الظّروف. بمعنى ضرورة وجود التّحدّيات ليكون للتّفاؤل أهمّيّة. وقال بأنّ أخطر عدوٍّ للأمل هو الشّعور باليأس والهزيمة.

وبالرّجوع لتاريخ فلسطين وغزّة الّذي يتجاوز ال4000 سنة، ومعرفة كيف نهضت مدنها كالفينيق من وسط الرّكام بعد تعرّضها لأعتى الحروب، وحسب نظريّة غرامشي في التّفاؤل، سينبعث الأمل بأن تنهض غزّة ثانية وتنتصر. لقد فعلت ذلك دائماً وستفعله من جديد. (نور مصالحة).

بعض الاقتباسات:

– تحرير العقل هو مفتاح التّحرّر من التّسلّط والهيمنة.

– إنّ التّاريخ هو ما يصنع الإنسان وليس الطّبيعة، وهو(التّاريخ) الحرّيّة والضّرورة معاً.

– حين تضرب رأسك بالحائط  فإنَّ رأسك الّذي يتأذّى وليس الحائط. (لقد قام بهذا أثناء سجنه من شدّة الألم الّذي كان يعاني

منه).

– أنا متشائم بسبب العقل ولكنّي متفائل بسبب الإرادة.

– لا معنى للتّفاؤل إن لم يكن له أساس واقعي ولا معنى للفكر إن لم يكن موجّهاً نحو هدف إنساني واضح.

lo3bat elomam

Recent Posts

رواية من خلف خطوط القهر والأمل

ديانا غرز الدين سؤال غريب ، من يصنع من؟ هل الواقع يصنعنا ام نحن نصنعه؟…

3 days ago

تدهور نووي في العلاقات الفرنسية الجزائرية، لماذا؟

 حيدر حيدورة-الجزائر في ظل ازمة حادة تعرفها العلاقات الجزائرية الفرنسية لم تشهدها منذ الاستقلال حتى…

3 days ago

Ce bouquet de mariée qui cacherait les mauvaises odeurs !

Ce bouquet de mariée qui cacherait les mauvaises odeurs ! Nadine Sayegh-Paris L’idée de bouquet…

5 days ago

الرئيس الغزواني والعبور بأفريقيا نحو المستقبل

الداه صهيب - نائب موريتاني حين تسلم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني رئاسة الاتحاد الإفريقي…

1 week ago

علماء الدين والدنيا في لقاء استثنائي في المغرب

طالع السعود الأطلسي  الأستاذ أحمد التوفيق، الوزير المغربي للأوقاف والشؤون الإسلامية، وهو المؤرِّخ، العالِم والأديب،…

1 week ago

كيف كسرت الصين تفوّق أميركا في الذكاء الاصطناعي

رغيد عودة فاجعة حلت على بورصة وول ستريت،  حققت  الصين ما لم تتوقعه الشركات الأمريكيّة…

1 week ago