آخر خبر

هل انتصرت غزّة فعلاً؟

مجد ستوم-غزّة ( مؤسسة الدراسات الفلسطينية)

سؤال يتردد وسط الدمار الذي لحق بالبنية التحتية والحياة اليومية، لكن إذا نظرنا إلى ما وراء هذا الدمار، فسنجد أن غزة انتصرت بمعايير مغايرة، وبعيدة عن مفاهيم النصر العسكري التقليدي، وكل ساعة تمر في غزة تكشف عن أبعاد جديدة لهذا الانتصار.

لماذا يعتقد البعض أن غزة لم تنتصر؟

عند النظر إلى الوضع في غزة من زاوية معيّنة، ربما يرى البعض أن القطاع لم يحقق النصر في حرب الإبادة الجماعية، ويكمن السبب في المعايير التقليدية التي يقاس بها النصر، كالحسم العسكري، أو استعادة الأرض، أو التأثير المباشر في تغييرات كبيرة في معادلة الصراع. ومن هذه الزاوية، يبدو أن غزة لم تحقق تلك الأهداف، إنما العكس هو الصحيح؛ فقد كان الدمار واسعاً، وسقط عدد هائل من الشهداء والجرحى، ودُمر أكثر من 80% من البنية التحتية والمنازل، ولم تسلم المدارس والمستشفيات من الضربات الجوية، كما تعرضت شبكات المياه والكهرباء للتدمير، وهي التي كانت تعاني أصلاً جرّاء التدهُور قبل الحرب، وتحولت غزة إلى أرض قاحلة بلا حياة، ولم يقتصر الأمر على الدمار المادي وحسب، بل أيضاً امتدت المعاناة اليومية إلى المواطنين، وستستمر حتى بعد توقف العمليات العسكرية؛ مِن نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، ووضع إنساني الصعب بسبب الحصار المستمر، وقيود على الحركة يعاني جرّاءها السكان، كما أن العجز عن تغيير الوضع السياسي أو فرض حلول دائمة يعزز هذا الرأي.

ومن جهة أُخرى، فقد كان هناك تخاذُل عربي واضح في توفير الدعم الكافي لغزة، إذ لم تلبِّ الدول العربية حاجات القطاع، سواء على المستوى السياسي أو الإنساني، بل إن بعض الدول العربية ساعدت بصورة غير مباشرة السياسات الإسرائيلية، عبر صمتها أو دعمها بعض المواقف الإقليمية التي تصب في مصلحة الاحتلال. أمّا التواطؤ الغربي، فقد تجلّى في الدعم المادي والمعنوي الذي قدّمته بعض الدول الكبرى إلى إسرائيل، وهو ما ساهم في استمرارية المعاناة الفلسطينية.

كيف يرى آخرون غزة منتصرة؟

في خضم العدوان الوحشي على غزة، تَجَسَّدَ انتصار القطاع في مجابهة الاحتلال في عدة مستويات، على الرغم من كل التحديات المدمرة. ويمكن تلخيص هذا الانتصار في عدة محاور أساسية تميزت بها المقاومة الفلسطينية.

المحور الأول: التكتيك العسكري للمقاومة الفلسطينية

عند الحديث عن التكتيك العسكري للمقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يمكن استعراض العديد من الاستراتيجيات التي ساهمت في تغيير موازين المعركة لمصلحة المقاومة، التي تبنّت نهجاً غير تقليدي في الحرب ضد جيش الاحتلال، إذ اعتمدت على حرب العصابات، وهو أسلوب يعتمد على القتال غير المباشر والتنقل المستمر بين المواقع، الأمر الذي يصعّب على العدو تحديد مكان قوات المقاومة وشن ضربات فاعلة.

وأحد أبرز التكتيكات التي استخدمتها المقاومة كان تفخيخ المنازل التي يتخذها جيش الاحتلال مواقع له، كما حدث في حي التنور شرقي رفح؛ إذ نفذ مقاتلو كتائب القسام عمليات نوعية ضد جنود الاحتلال من مسافة قريبة باستخدام الرشاشات والقنابل اليدوية، ثم فجروا عبوات مضادة للأفراد، وهو ما أدى إلى مقتل 15 جندياً إسرائيلياً.

ومن جانب آخر، فقد اعتمدت المقاومة أيضاً على التخفي والتنقل السريع، وهو ما تضمّن تنفيذ العمليات الهجومية ثم الانتقال إلى مواقع جديدة، الأمر الذي جعل من الصعب على الاحتلال أن يواجه المقاومة بصورة فاعلة. وهذه الاستراتيجيا أتاحت للمقاومة فرْض سيطرتها على مجريات العمليات في شمال قطاع غزة، إذ دارت عدة معارك حاسمة ضد جيش الاحتلال، الذي تكبد خسائر ضخمة في الأرواح والمعدات.

وقد كان تأثير هذه التكتيكات واضحاً في تراجُع معنويات جيش الاحتلال، الذي كانت تقديراته تستند إلى تفوقه الجوي والاستخباراتي، لكن تبيّن له أن المقاومة الفلسطينية قادرة على قلب موازين المعركة والتحكم فيها على الأرض. وما فشلت فيه العمليّات البرّية التقليدية، كان يعوَض بالكمائن والهجمات المباغِتة من وراء خطوط الاحتلال.

أثبت التكتيك العسكري للمقاومة الفلسطينية قدراتها العالية في قراءة الميدان وإحباط المخططات العسكرية للعدو، إذ استطاعت أن تحقق العديد من الأهداف العسكرية والسياسية التي تسببت بتدهور صدقية القيادة الإسرائيلية داخلياً ودولياً، بالإضافة إلى استنزاف جهود جيش الاحتلال في صراع طويل الأمد.

وهذا التوجه أظهر مدى التكيف الاستراتيجي والقدرة على الابتكار العسكري في ظل الأوضاع القاسية، وهو ما ساعد في تحطيم أسطورة التفوق الإسرائيلي أمام المقاومة الفلسطينية.

المحور الثاني: التمسك بالأرض

على الرغم من مشاهد الموت والدمار التي ملأت شوارع غزة، فقد ظل الفلسطينيون متمسكين بأرضهم، ولم يكن هذا الصمود مجرد فعل فردي، بل أيضاً كان موقفاً جماعياً، إذ رفضت عائلات عديدة مغادرة منازلها في شمال القطاع إلى الجنوب، على الرغم من التحذيرات المتكررة من الاحتلال، واستشهد أغلبهم في منازلهم، كعائلة شقورة وصالحة، اللتين فرحتا بإعلان موعد الهدنة، لكن قذائف الاحتلال كانت أسرع من هذه الفرحة، فقضوا جميعهم قبل دخولها حيز التنفيذ.

وتحدت غزة القصف والحصار بنماذج صمود ملهمة، إذ لجأت عائلات فقدت منازلها إلى المساجد والمدارس، حيث أُقيمت مطابخ جماعية لإطعام الجوعى، واستمر الأطباء في مستشفى الشفاء في العمل بأدوات بسيطة لإنقاذ الجرحى في أوضاع شبه مستحيلة، بينما عاد الطلبة إلى دفاترهم تحت الركام ليواصلوا تعليمهم، متحدّين محاولات طمس مستقبلهم.

وهكذا، فإن الصمود على الأرض وسط الموت هو نصر بحد ذاته، إذ زادت كل قذيفة سقطت من إصرار الفلسطينيين على البقاء.

المحور الثالث: النصر السياسي والدبلوماسي والشعبي

استطاعت المقاومة الفلسطينية تحقيق انتصارات سياسية وشعبية فاقت التوقعات، فقد أعادت هذه الحرب القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية، بعدما كانت قد تعرضت للتهميش. ونتيجة ذلك، فقد زادت الدعوات العالمية إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما ساعد في تعزيز موقف المقاومة الفلسطينية على الساحة الدولية.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، اضطرت إسرائيل إلى الاعتراف بحقيقة ميدانية جديدة تتمثل في أن حركة “حماس”، التي كانت تسعى للقضاء عليها، أصبحت جزءاً أساسياً من معادلة الصراع، وهذا التحول في المواقف كان من أبرز المكاسب التي حققتها المقاومة، إذ تمت محادثات دبلوماسية مع وسطاء دوليين كقطر ومصر، وهو ما يمثل اعترافاً ضمنياً بدور المقاومة في تحديد مسار الأحداث.

وعلى المستوى الاستراتيجي، فقد أدت عملية “طوفان الأقصى” وردة الفعل الإجرامية للاحتلال الإسرائيلي عليها إلى توقُف إطار التطبيع العربي، وجعْل أي عملية من هذا النوع لاحقاً تشكل إحراجاً للدول أمام شعوبها بعد الذي حدث في غزة، فقد عكس هذا الموقف تحولاً في الرأي العام العربي، وأدى إلى تجميد مساعي التطبيع التي كانت قد بدأت تظهر قبيل العدوان.

وفي الوقت نفسه، أدى التوثيق التكنولوجي دوراً محورياً في فضح جرائم الاحتلال، إذ قام الفلسطينيون في غزة بتوثيق المجازر والدمار لحظة بلحظة باستخدام الهواتف الذكية لفضْح الحقائق أمام العالم. وعلى الرغم من محاولات الاحتلال قطْع الإنترنت وتزوير الواقع، فقد استطاعت هذه الشهادات المصورة أن تصل إلى وسائل الإعلام العالمية، التي بدورها عرضت معاناة غزة على شاشاتها، وهذه العملية ساعدت في زيادة الوعي العالمي، ودفعت العديد من الدول إلى إعادة تقييم مواقفها من الدعم الموجه إلى إسرائيل.

المحور الرابع: قبول الاحتلال بالبنود المشروطة على الرغم من تعارضها مع أهدافه

لقد شكلت بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه، سواء عبر الوسيطَين القطري والمصري أو غيرهما من الأطراف، نقطة فارقة في تاريخ الصراع، إذ إن هذه البنود لم تكن فقط تحقُقاً لمطالب المقاومة الفلسطينية، بل أيضاً تمثل قبول الاحتلال الإسرائيلي بشروط تتعارض تماماً مع أهدافه، فهي؛ أولاً، تعكس موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار بعد أن كانت قد تشددت في موقفها بشأن فصل الحرب عن التفاوض بشأن الأسرى، وحقيقة أن الاحتلال فشل في القضاء على المقاومة أو في فرْض إرادته عليها. ثانياً، القبول بالانسحاب المتدرج من قطاع غزة، وهو ما كان مستبعَداً تماماً، يشير إلى فشل الاحتلال في المحافظة على هيمنته المباشرة على القطاع، وقد كان يطمح في البقاء فيه لفترة طويلة.

هذا فضلاً عن قبول الاحتلال بشروط المقاومة فيما يتعلق بعملية تبادُل الأسرى؛ فإسرائيل التي أصرت في السابق على إبقاء العديد من الأسرى الفلسطينيين رهن الاعتقال، وافقت على إطلاق سراحهم، وبينهم قادة كبار من حركة “حماس”، وعلى رأسهم الأسرى الذين كان لهم دور كبير في عمليات المقاومة. ولم تكن هذه الشروط فقط ضربة للزعم الإسرائيلي الذي سعى لتحييد المقاومة بالكامل، بل أيضاً أظهرت أن الاحتلال اضطر إلى القبول بالواقع الميداني الذي فرضته المقاومة، وأصبح مضطراً إلى تقديم تنازلات لتحقيق تهدئة، بدلاً من فرْض شروطه.

وبالتالي، فعلى الرغم من الدمار الهائل الذي طال غزة، والأثمان الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني، فإن قبول الاحتلال بهذه البنود المشروطة يُعَد بمثابة انتصار نوعي لغزة والمقاومة الفلسطينية، إذ تمكّن الفلسطينيون من فرْض شروطهم على طاولة التفاوض، وهو ما يُعَد علامة فارقة في صراعهم المستمر مع الاحتلال.

النهاية أم بداية صراع جديد

مع انتهاء الحرب، يبقى التساؤل مطروحاً: هل حققت غزة انتصاراً حاسماً، أم إن ما تحقق هو فقط فصل جديد في صراع طويل؟ لقد كشفت هذه الملحمة وحشية الاحتلال الإسرائيلي والإجرام الممنهج المدعوم من قوى كبرى، وأظهرت في الوقت نفسه صموداً فلسطينياً أسطورياً. لكن على الرغم من الاتفاقيات الموقعة، فإن الشكوك تظل قائمة بشأن مدى التزام إسرائيل تعهداتها. فإلى أي حد يمكن اعتبار وقف إطلاق النار نهاية للمعاناة، وليس مجرد هدنة موقتة؟ هذه الأسئلة وغيرها تبقى مفتوحة، تاركة مصير القضية الفلسطينية عند مفترق طرق، بين وعدٍ بالتحرر، وألمٍ مستمر للصراع الذي لم تنطفئ نيرانه بعد.

المراجع

عن المؤلف:

مجد ستوم: خريجة بكالوريوس علاج طبيعي من جامعة الأزهر في غزة.

lo3bat elomam

Recent Posts

ديب سيك الصيني يتفوق على كل محركات الذكاء الاصطناعي

هونغ كونغ-الشرق الأوسط تمكنت شركة الذكاء الاصطناعي الصينية «ديب سيك» من إحداث تحول كبير في…

14 hours ago

Et si le chocolat était réservé, seulement, aux Zurichois !

Et si le chocolat était réservé, seulement, aux Zurichois ! Nadine Sayegh-Paris Les origines du chocolat…

1 day ago

أرقام لافتة في الذكرى العاشرة لتولي الملك سلمان شؤون العرش

اليكم بعض الارقام اللافتة في الذكرى العاشرة لتولي الملك سلمان العرش السعودي في العام 2015…

7 days ago

عام 2024.. العام الذي لم يُغث فيه الناس من الدمار

أيمن مرابط_ الرباط ثم أتى عام، يُقتل فيه الناس، يُفتك بهم، يذبح أبناؤهم، وتُستحيى نساءهم، ولا…

1 week ago

يديعوت احرونوت: الجميع أخفق في غزة وهاليفي يدفع الثمن

   موران أزولاي-يديعوت أحرونوت   • هذه نهاية سيناريو معروف مسبقاً. إن رسالة الاستقالة التي…

1 week ago

هآرتس: الاستيطان عقبة أمام السلام

 هآرتس-افتتاحيّة تطرّق وزير الدفاع يسرائيل كاتس، أمس، إلى أعمال الشغب التي وقعت في قرية الفندق…

1 week ago