أ.د ماريز يونس *
مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا وتكليف نواف سلام برئاسة الحكومة، شهد لبنان لحظة نادرة من التفاؤل الشعبي، حيث رأى كثيرون في الشخصيّتين الجديدتين، فرصة للانطلاق نحو عهد جديد ينقذ الوطن من أزماته المتراكمة. عون وسلام ليسا من الطبقة السياسية التقليدية التي ارتبطت بالفساد والمحاصصة، بل يحملان سجلاً نظيفاً يعكس قيم المواطنة والعدالة. ومع ذلك، فإن هذه اللحظة سرعان ما كشفت تعقيدات أعمق، تسلط الضوء على تلاقي المزاج الشعبي والسياسي بطرق لا تخلو من التضليل والتناقض.
الفرحة الشعبية وأمل التغيير
لطالما عاش اللبنانيون في ظل نظام سياسي طائفي يفتقر إلى العدالة والشفافية، ويُدار بمنطق المحاصصة وتوازنات المحاور الخارجية. في هذا السياق، جاء انتخاب جوزيف عون وتكليف نواف سلام كإشارة أولى لإمكانية كسر هذه الحلقة المفرغة. المؤسسة العسكرية التي يمثلها عون لطالما كانت رمزاً للوطنية، حيث حافظ الجيش اللبناني على تماسكه رغم الانقسامات الطائفية. أما سلام، القاضي الذي نال احتراماً دولياً بمواقفه العادلة، فهو رمز للقانون والنزاهة.
رأى اللبنانيون في هاتين الشخصيتين نافذة أمل، خاصة أن مسيرتيهما تمثلان القيم التي طالبت بها انتفاضة 17 تشرين، من إلغاء الطائفية السياسية وبناء دولة المواطنة. كانت الفرحة الشعبية مفهومة، بعد سنوات من الإحباط مع طبقة سياسية أعادت إنتاج الأزمات نفسها لصالح فئات ومصالح ضيقة. لكن هذه الفرحة، رغم شرعيتها، سرعان ما وُضعت أمام تحديات الواقع السياسي المعقد.
النظام الطائفي وإعادة إنتاج الأزمة
رغم تفاؤل الشارع، لا يمكن فصل انتخاب الرئيس وتكليف رئيس الحكومة عن السياق السياسي الذي أتى بهما. النظام السياسي اللبناني، القائم على توازنات طائفية ومحاور خارجية، هو الذي أفرز هذه اللحظة. القوى السياسية التقليدية التي أرهقت البلاد لعقود، والتي ركبت موجة التغيير في مناسبات عدة، كانت شريكاً أساسياً في اختيار الشخصيتين، ما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة هذا النظام على إصلاح نفسه.
التدخلات الخارجية التي فرضت نفسها في هذه اللحظة تؤكد أن لبنان لا يزال ساحة لصراعات إقليمية ودولية. المحاور التي أثرت في تشكيل الحكومة والاتفاق على الشخصيات السياسية تذكّر اللبنانيين بأن مصلحتهم الوطنية تأتي دائماً في مرتبة أدنى مقارنة بمصالح الطوائف والمحاور. هذا السياق يُبقي النظام الطائفي في صلب اللعبة السياسية، ما يعقّد أي محاولة للتغيير الحقيقي.
الواقع السياسي: بين الأمل بالتغيير واستمرار القديم
النقاشات والمشاورات حول تشكيل الحكومة كشفت سريعاً عن عمق المشكلة. عادت المحاصصة لتكون عنواناً رئيسياً لكل خطوة سياسية، حيث تنافست القوى التقليدية على توزيع الحصص الطائفية كما لو أن شيئاً لم يتغير. هذه العودة إلى منطق الفئوية والمحاصصة دفعت كثيرين للتساؤل عن جدوى التغيير الذي أتى بعون وسلام، رغم نزاهتهما، في ظل نظام يعيد إنتاج نفسه باستمرار. هنا، يتضح التباين بين الرغبة الشعبية في الإصلاح والنوايا السياسية التي لا تزال محكومة بمنطق المحاور والمحاصصة.
التضليل الشعبي: بين الأمل والرضا بالأمر الواقع
يمكن تفسير استمرار التفاؤل الشعبي، رغم كل المؤشرات السلبية، على أنه تعبير عن رضا مضطرب بما هو “أفضل من الأسوأ”. بعد سنوات من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والحرب غير المسبوقة، بات اللبنانيون مستعدين لقبول تغيير يحمل بصمات طائفية وخارجية، طالما أنه يخفف من أعبائهم اليومية. هذا القبول بالحد الأدنى من التغيير يعكس حالة يأس مزمنة من إمكانية تحقيق تغيير جذري، حيث تُعتبر أي خطوة إيجابية، مهما كانت محدودة، انتصاراً في ظل الواقع الكارثي.
لكن هذا التفاؤل يحمل في طياته خطراً كبيراً. المزاج الشعبي قد يصبح أداة بيد السلطة السياسية، التي تعيد إنتاج الأزمات عبر استغلال هذا الرضا لتحقيق مكاسب قصيرة الأمد. التماهي بين الشعبي والسياسي في لحظة تضليل كهذه يهدد بتحويل فرصة التغيير إلى مجرد وهم، حيث يُقنع اللبنانيون أنفسهم بأن التغيير الحقيقي غير ممكن.
المزاج السياسي: انتصار وهمي أم صراع جديد؟
على الجانب الآخر، المشهد السياسي أكثر تعقيداً. بعض القوى ترى في انتخاب جوزيف عون وتكليف نواف سلام انتصاراً لها في مواجهة خصومها السياسيين، بينما ترى قوى أخرى في هذه اللحظة تهديداً لوجودها. هذا التباين يعكس استمرار الصراعات الطائفية والسياسية التي لم تُحل، بل تغيرت أدواتها وشعاراتها.
الشعور بالانتصار لدى بعض القوى لا ينبع من رغبة حقيقية في الإصلاح، بل من تصفية حسابات مع الخصوم. في المقابل، ترى قوى أخرى في العهد الجديد محاولة لإقصائها، مما يعمّق الانقسامات ويُضعف إمكانية التوافق على أجندة وطنية شاملة. هذا المزاج السياسي القائم على منطق الغالب والمغلوب يعيد إنتاج الأزمة، حيث تتحول أي لحظة تغيير إلى ساحة صراع جديدة بدلاً من أن تكون فرصة للبناء.
فرصة استثنائية لمرحلة انتقالية نحو لبنان جديد
نحن أمام فرصة استثنائية تنطلق من رؤية واقعية تدرك استحالة التغيير الجذري والاستفاقة الفورية على لبنان جديد. ومع ذلك، فإن الأمل ما زال قائماً، لأن هذه الشخصيات الوطنية، التي تحظى بدعم شعبي كبير، يمكن أن تكون نقطة تحول إذا التقت إرادتها مع الإرادة الشعبية الجامعة. حين تتضافر هذه الإرادة مع إرادة سياسية حقيقية للانتقال التدريجي، يمكن أن تبدأ عملية بناء شامل وجذري للبنان مختلف، يستند إلى عقد اجتماعي جديد يرسخ مفهومي السيادة والمواطنة.
هذا البناء لا يقتصر على إعادة ترتيب المؤسسات، بل يقوم على قيم شفافة تعيد إحياء الدولة: الشفافية، العدالة، المساواة، الحقوق والواجبات، الحوكمة الرشيدة، سيادة القانون، المحاسبة، الكفاءة، والاستقلالية. السيادة هنا ليست مجرد مصطلح سياسي، بل ضمان استقلال لبنان عن كل التدخلات الخارجية ليكون قراره نابعا من مصلحته الوطنية. أما المواطنة، فهي القاعدة التي تلغي كل الفروقات الطائفية والمناطقية، لتجعل من اللبنانيين شركاء في بناء وطن يحترم إنسانيتهم ويصون كرامتهم.
الفرصة اليوم ليست في انتظار تغيير جذري مفاجئ، بل في التحرك بخطوات ثابتة، تبدأ بتوحيد الأولويات الوطنية وترجمة الطموحات الشعبية إلى إصلاحات حقيقية. إذا تمكنت القيادة الوطنية من التقاط هذه اللحظة التاريخية والتماهي مع إرادة الناس، فإن لبنان يمكن أن يخطو بثبات نحو مستقبل يحترم قيم الدولة الحديثة ويعيد بناء الثقة في مؤسساتها.
الكاتبة: أ.د ماريز يونس استاذ علم الاجتماع في الجامعة اللُبنانيّة ، ورئيسة الشبكة الدوليّة لدراسة المجتمعات العربية
هونغ كونغ-الشرق الأوسط تمكنت شركة الذكاء الاصطناعي الصينية «ديب سيك» من إحداث تحول كبير في…
Et si le chocolat était réservé, seulement, aux Zurichois ! Nadine Sayegh-Paris Les origines du chocolat…
اليكم بعض الارقام اللافتة في الذكرى العاشرة لتولي الملك سلمان العرش السعودي في العام 2015…
أيمن مرابط_ الرباط ثم أتى عام، يُقتل فيه الناس، يُفتك بهم، يذبح أبناؤهم، وتُستحيى نساءهم، ولا…
موران أزولاي-يديعوت أحرونوت • هذه نهاية سيناريو معروف مسبقاً. إن رسالة الاستقالة التي…
هآرتس-افتتاحيّة تطرّق وزير الدفاع يسرائيل كاتس، أمس، إلى أعمال الشغب التي وقعت في قرية الفندق…