الرواية الفلسطينية الجديدة

سامي كليب

ليس ما حصل في غزة منذ 7 تشرين الاول /اكتوبر 2023 حدثًا قابلاً للتحليل العميق والفهم الدقيق في فترة قريبة. فهذا الزلزال الذي زعزع كل ركائز الشرق الأوسط، وهزّ المنظومة الأخلاقية الإنسانية والأمنية والسياسية والإعلامية ، يحتاج لسنوات طويلة لسبر أغواره الحقيقية، وإدراك أسبابه المحلية والإقليمية والدولية ، واستشراف تأثيراته وارتداداته الراهنة والمقبلة .

واذا كانت الرواية الفلسطينية الممتدة منذ ما قبل العام 1948 وحتًى اليوم، قد استندت إلى الظلم التاريخي الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني المسلم والمسيحي من بطش وقتل وتهجير وسرقة ارضه وسجنه في معتقل كبير، فان فلسطين بحاجة لرواية جديدة تناسب هول ما حصل وتستشرف مستقبل شعب يباد لانه ببساطة يريد دولة يعيش فيها كباقي دول العالم .

من هذا المنطلق تداعى إلى اسطنبول مئات الإعلاميين والمفكرين والمثقفين العرب والدوليين، لمؤتمر بعنوان  ” الرواية الفلسطينية -طور جديد” نظّمه منتدى فلسطين الدولي للاعلام “تواصل” ، فجاؤوا من أوروبا واميركا اللاتينية وافريقيا وآسيا  والمغرب والشرق الأوسط والخليج ، يلتقون مع زملائهم القادمين من فلسطين ويتبادلون التجارب ووجهات النظر ، ويتفقون على خطة ومنظومة اخلاقية لمستقبل القضية .

تزامن المؤتمر  ذو التقنيات البصرية الرائعة والتنظيم المحترم ، مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، لكن الصور والفيديوهات  التي عُرضت مع افتتاح المؤتمر شرحت دون كلام، حجم المأساة الإنسانية ، ومستوى الإجرام الهولوكوستي حيال الأطفال والنساء، وسط تعتيم إعلامي شبه عام من جهة، وتماهي مع المحتل لتبرير روايته من جهة ثانية ، وسقوط المنظومة الأخلاقية الإعلامية لقتل رواية الشعب الذي يباد من جهة ثالثة .

بصوته الاذاعي الجهوري الجميل الذي يشبه صرخة ابناء الارض، افتتح الإعلامي العريق أحمد الشيخ الامين العام لمنتدى تواصل هذا المؤتمر، شارحًا هول ما حصل وعارضًا الاسباب الموجبة للرواية الجديدة ، وقدّم الجلسة الافتتاحية،  الزميل القدير في قناة الجزيرة محمد كريشان مع زميلة اجنبية، وتخلل كلامهما مشاهد وفيديوهات لرواية المأساة المخضّبة بالدم والدمار ولكن ايضا بالصمود الأسطوري لشعب لم ولن يمل من مواجهة المحتل بغض النظر عمن يطلق الانتفاضة تلو الانتفاضة رفضا للاستسلام .

هنا في المنتدى تسقط حواجز الجغرافيا والحدود والطوائف والأعراق والجنسيات، وتعبر الإنسانية كل الحدود للمساهمة في وضع أسس الرواية الفلسطينية الجديدة ، فلا عجب اذا حضر عبر شاشة المؤتمر الكاتب العالمي العريق ذو الديانة اليهودية والانتماء الإنساني ايلان بابيه صاحب الكتب العديدة حول التصفية العرقية في فلسطين، ليحكي اسباب هذه الابادة المستمرة بعد اكثر من 7 عقود ويختم بالأمل واليقين بتحرير فلسطين . ولا عجب ان ينبري عالِم السياسة الفرنسي فرانسوا يورغا للقول : ” أنا لست هنا للدفاع عن الفلسطينيين او العرب او المسلمين، بل للدفاع عن الحق وهو اليوم في فلسطين “، ولا عجب ان تفند الإعلامية الأرجنتينية كارين مارون هول نوم الضمير العالمي امام الابادة، او نسمع من عزام التميمي قصة تهجير اهله وعائلته وجور المختل جيلا بعد جيل .

المنتدى الدولي لفلسطين الذي ضم العديد من الندوات والورشات الإعلامية، مشروع رائد في عصرنا الحالي، ذلك أنه من خلال جمعه كل هذه الخبرات الإعلامية والفكرية والثقافية في مكان واحد، يناقض تمامًا الاستسلام الإعلامي لمختل يريد اقامة شرق اوسط جديد مبني على الدم والدمار والقمع وعلى انقاض فلسطين وقبور ناسها .

هنا في إسطنبول كانت لغة مختلفة، تطرح افكارًا واقعية، لا طوباوية، وتقترح أسسا جديدة لمنظومة إعلامية فكرية ثقافية تواكب أهم قضية في التاريخ الحديث، ونحاول ان تبلسم جروح الأطفال، وتمسح دموع الثكالى والأيتام، قائلة لهم بلغة الضمير الإعلامي والأخلاق الثقافية والفكرية، أنهم ليسوا وحدهم ، وان الصوت الفلسطيني سيبقى مسموعًا يهز ضمائر العالم حتى تقوم الدولة المأمولة، ذلك ان ثمة شعبًا اثبت جيلاً بعد جيل أنه لن يقبل الاحتلال حتى لو فقد خيرة أبنائه على درب الحرية …

النقد الذاتي للفتنة  الفلسطينية مطلوب، ذلك ان التنافر بين الفصائل يوازي خطورة الحرب وجورها،

واعادة ترتيب البيت الفلسطيني مطلوبة ايضًا وأكثر من اي وقت مضى ، لكن ان نوازي بين الجلاد والضحية ونختصر تاريخ هذه المأساة الانسانية بتاريخ 7 اكتوبر، هو ظلم فكري وسياسي وإعلامي وثقافي يوازي بين الجلاد والضحية. وهذا بالضبط ما يستدعي رواية فلسطينية جديدة ، وهذا ما يطمح اليه منتدى تواصل …على امل استكمال هذه المبادرة الرائدة وتوسيعها