سامي كليب:
في ثلاثِ حالاتٍ تعرّضت شهرزاد الأدب اللُبناني لتحرّش جنسي، أولُها وهي طفلة عائدةٌ من المدرسة حين صدمها جارُ أهلِها العجوز بعرضِ عضوِه وهي تصعدُ الدرج، والثانية حين وضع صديقُ والدِها يدَه على فخذها في السيارة، وثالثتُها لمّا سعى أستاذُها لمقايضَتِها العلامات المدرسيّة بجسدها.
بين صُوَرِ الطفولة والمراهقة المُكبّلة بالتقاليد والمتعرّضة للتحرّش، وبين قلقِ التقدّم بالعُمر في خمسينياته والإصرار على حبّ الحياة، تُقدّم الأديبة والشاعرة والإعلاميّة اللُبنانية جمانة حدَّاد، دستورها الخاص للنسوية، فتمُيط اللثامَ عن تجاربَ خاصّةٍ، وتقاليدَ قامعةٍ، وموروثاتٍ مانعةٍ، وتروي للمرّة الثانية بلسان شهرزاد، ليس لشهريار، بل للنساء العربيَّات، حصيلةَ فهمِها للحياة، وعلاقات الحب، والصداقة، والزواج، والجنس، والدين والوحدة، مقرونةً بثقافة عميقة، ومراجعاتٍ نفسيّة، في كتابٍ جديرٍ بالقراءة والنقاش يحمل عنوان ” وصايا شهرزاد الأخيرة”… لا أعلم لماذا الوصايا الأخيرة، فالعُمر ما زال يسمحُ بوصايا أخرى، ومتعةُ الحياة ما زالت صاخبةً في حياة الكاتبة رغم خطوط العُمر. لكن لا بأس، فرُبما ستكتب لاحقًا عن شيء آخر غير شهرزاد، وهي التي أغنت المكتبة اللُبنانية والعربيّة بمؤلفاتٍ عديدة، وأتقنت لغاتٍ كثيرة.
جمانة حدّاد غالِبًا ما تُثير جدلاً كبيرًا حول كُتُبِها وإطلالاتِها الإعلامية وندواتها في لُبنان أو الخارج بسبب كسرها الكثير من المُحرّمات في أدبها ومقالاتها وحياتها، تعترفُ في مقدّمة كتابِها بأنّها لا تدّعي في مؤلفِها الجديد هذا، قولَ ما لم تَقلْه قبلاً، وأنَّ ” قصصًا قديمة عالقةً في الحنجرة والذاكرة تنتظر اللحظةَ المُناسبة لتتحرَّر”، فإن ما أفاضت به، يكسر الكثير من نمطية الكتابات العربيّة ويجتازُ حدودًا عديدة، ولا يأبه لما سيُقال أو يُكتب عنه.
يُضفي نضوج العُمر على تجربة شهرزاد الأدب اللُبناني، مزيجًا فريدًا من التمرّد، والحكمة، والتحرّر، والثورة، ولكن أيضًا من الفهم العميق لتطوّر فكرةِ النسوية التي ليست بالضرورة ضدّ الرجل، ولا هي رديف للمثليّة، لا بل قد نجد نساء “ذكوريّات” في هذه الظواهر التي تُحلّلها جمانة حدّاد قبل أن تنفّدُها وتنقّيها من الشوائب، لجعلها بنودًا في دستورها الخاص حول النسويّة.
” في جوار كلّ طفلةٍ مكسورة، هناك طفلٌ مكسور”، تقول حدّاد، ثم تسأل :” هل ثمّة علاقة مثلاً بين فِطام الطفل الذكر باكرًا عن صدر أمّه، وهذا النوع من المازوشيّة؟ أو بين قسوة الأم وهذا النوع من المازوشيّة، أو بين غياب الأم وهذا النوع من المازوشيّة؟ وهل تعلُّق الرجلِ الراشد بِمَن تُعذّبه ما هو الاّ بحثٌ عن الأمّ التي عذّبته؟. .. هل من السهل أن تعيَ كلّ امرأةٍ أنَّ جزءًا كبيرًا من تصرّفاتها هو نتيجةُ برمجةٍ ذكورية؟… هكذا نُبحرُ نحن النساء في علاقاتنا، ومنذ نعومة أظفارِنا، وسط مُحيط هائجٍ من النصائح والمفاهيم الذكورية حول “كيف يجب أن نكون” و” كيف ينبغي لنا أن نتصرّفَ” و ” ماذا يصحُّ، أو لا، أن نقولَ وأن نُفكّرَ إلخ”…
لا حدود لفكرة التحرّر والتمرّد والثورة في كتابات جمانة حدّاد، فالارتباط بين المرأة والرجل (أو الزواج) مآلٌ واحدُ مُحتملٌ من مآلات علاقة الحب، وهي لا تتردّد في القول وبجرأتها المعهودة :” سأجرؤ هنا على أن أجزمَ بأنَّ لا شيء سيتغيّر حقًّا إلى الأفضل في العالم العربيّ، مهما بلغ حجم التطوّر التكنولوجي وارتفاع ناطحات السحاب فيه، ما لم يعش هذا العالم ثورته الجنسية بقيادة نسائه وأقليَّاته الجنسيّة”. في هذه الثورة التي تتحدّث عنها، ترى أن المُتعة يجب أن تكون مُتبادلة، لا بل أن تُفكّر المرأةُ بذاتِها قبل الآخر.
قد ينبري بعضُهكم أيتها القارئات العزيزات، أو القرّاء الأعزاء، إلى مهاجمة جمانة حدّاد، ونعتها بكل صنوف النعت، وهذا ما حصل معها فعلاً خصوصا بعد انتشار وسائل ” التباغض الاجتماعي”، لكنّها في ما تقول، إنّما تنطلقُ من قناعاتِها فعلاً، وتسير في رَكبِ الثورة النسائية الكُبرى ليس لكُره الرجل، بل لتصحيح خللٍ موروثٍ في العدالة الاجتماعية. فالرجل في قناعات جمانة حدّاد والكثيرِ غيرها من المدافعات عن النسوية، هو أيضًا الحبيب والصديق والزوج المتفهّم والشريك والعشيق ألخ، الذي يُضفي على حياة شريكته سعادة لو أنها أحبّت نفسها وجسدها وقناعاتِها أولاً.
ألم تقل مثلا سيمون دو بوفوار :” لا نولد امرأة، بل نصبح كذلك .” وهي الفيلسوفة والأديبة الفرنسية التي انتقدت فكرة الأنوثة بوصفها بناء اجتماعيًّا، لكنَّها لم تكره الرجل، بل دعت لعلاقةٍ سليمةٍ معه؟
ألم تقل فرجينيا وولف في كتابها القيّم (غرفة تخصّ المرءَ وحدَه): “لا يُمكن للمرأة أن تكتبَ إذا لم يكُن لديها مالٌ وغرفةٌ تخصُّها وحدَها” وهي الأديبة البريطانية التي دعت إلى تحرير المرأة فكريًّا وجنسيًّا وأكَّدت على أهمية الاستقلال المالي للنساء.
في “وصايا شهرزاد الأخيرة” تبدو جمانة حدّاد متأثرة ومتماهية مع كل هذه الأفكار التحرّرية، فهي إذ تقول مثلاً:” ليس أشطر منّا، ولا أسرع، في لوم أنفسِنا وجَلدِها وتعذيبِها لأقل الأسباب، تربيَّنا لكي نشعرَ بالذنب حيالَ كلّ شاردةٍ وواردة، حتّى بات الذنبُ طبيعَتَنا الثانية”، إنّما تُذكّرنا بقول الكاتبة الأميركية بيتي فريدان في كتابها” اللغز الأنثوي” :” إنَّ المشكلة التي لا اسم لها – تلك التي جعلت النساء يشعرن بأن هناك شيئًا ما خاطئ، رغم أن حياتهن تبدو مثالية.”
وهو ما تطرّقت إليه أيضًا وبصورةٍ أدق الكاتبة كيت ميليت حين سعت لمعالجة كيفية ترسيخ الأنظمة الأبوية البطريركية على النساء في كتابها ” السياسة الجنسيّة”، حيث قالت :” إنَّ السياسة الجنسية موجودة في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية.”
وركزت على تحليل كيفية ترسيخ الأنظمة الأبوية للسيطرة على النساء.
وكثيراتٌ غيرهن كتبن عن ضرورة عدم تعريف المرأة عن نفسها من خلال الآخرين لأن ” في الأمر خيانة للنفس” وفق ما قالت توني مورسيون مثلاً.
النسوية بهذا المعنى لا تُعبّر عن كره الرجال، بل عن الاعتراف بحقوق النساء، وهي حقوقٌ قد تجدُ بعضَ قمعِها في كيفية استغلال بعض رجال الدين للكتبِ السماوية لتكريس السلطة الذكوريّة، فجمانة حدّاد ابنة الديانة المسيحيّة لا تجدُ مانعًا من انتقاد هذا الجانب الديني بقولها في أثناء زواجها الأول :” لم أملك إلاّ أن أرتجفَ غيظًا عندما قرأ الكاهنُ المقتَطَفَ التالي من رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس:” أيتها النساء اخضعنّ لأزواجِكُنّ خضوعَكُنَّ للربّ، لأنّ الرجلَ رأسُ المرأة كما أنَّ المسيحَ رأسُ الكنيسة، وكما تخضعُ الكنيسةُ للمسيح، فلتخضع النساءُ لأزواجِهنَّ في كلّ شيء”.
الأمر هُنا لا يتعلّق فقط بالرجال الذكوريّين وبموروثات كثيرة، بل يطال أيضًا من تصفهم حدّاد بالنساء الذكوريات، اللواتي يساهمن في قمع النساء، وتتساءل :” هل ينبغي أن نسامح النساء الذكوريات، ونتغاضى عن أفعالِهنّ، ونقلّص وقع هذه الأفعال وأذاها وخطورتها، بحجّة أنّهن ضحايا، حتى إذا كان ذلك صحيحًا في بعض الحالات؟ جوابي الشخصي أنْ لا، حانَ لنا، نحن النسويات، أن نكُفّ عن إيجاد الأعذار والمسوّغات لنساءٍ مماثلات”.
وإذ تمرّ حدّاد على أهمية الوحدة التي لا تُلغي الحب ، بل هي ” حالة وجودية عميقة متأصّلة فيّ…لكنّي أؤمن ب ( وأُنشدُ) الحُبَّ الذي يحتضنُ تلك الوحدةَ ويعانقُها”، فهي تنتقل في بنودها الأخيرة من دستورها النسويّ، للبحث في العمق النفسي للتقدّم بالسنّ. فمظاهرُه الجسديّة والذهنيّة يجب الاّ تُلغي متعة الحياة، وتقول :” إنَّ عطشي لن يرتوي، وجوعي لن يشبعَ، وناري لن تخمدَ، سأظل “جهلانة” و ” عييشة” و “مفنطزة” ( وهذه تعابير محليّة لُبنانيّة)، ألعنُ تجاعيدي في المرآة، وأضعُ أحمرَ الشفاه، وألبَسُ على الموضة، بقدر ما سأظل مُتلهّفة إلى المعرفة والتعلّم ومدمنة قراءة وفنّ وسفر. أعرفُ كذلك أنّي لن أكفّ عن الرقص، ولا عن القهقهة، ولا عن الكتابة، وعن عن الحلم، وعلى عن الحريّة… ولا خصوصًا وأولاً وأخيرًا، عن الوقوع في الحبّ”.
مَن تختم كتابَها بالحب مع الرجل، ليست كارهة للرجال، ولا رافضة لهم، بل باحثة عمّا يُصحح الكثير من أخطاء التاريخ ويعزّز حرية وحضور المرأة في مجتمعاتنا المعاصرة. ومن تربطُ الحرّية بالعلم والمعرفة، تُدرك أن التحرّر الحقيق لا ينجم سوى عن الوعي.
قد تختلفين عزيزتي القارئة وعزيزي القارئ مع بعض أفكارِ الكاتبة في ما يتعلّق بحدود الحريّة وخصوصًا ما يتعلق منها بالعلاقات بين الرجل والمرأة، وهذا حقُّك، لكنّك حتمًا لن تخالفَها الرأي، ولا آراء الكثيرات مثلها اللواتي يضعن قضية التحرّر في سياق العدالة الاجتماعية في عالم اليوم. فالمساواة بين المرأة والرجل في عصرنا، لا تختلف كثيرًا عن المطالبة بفك قيود العبودية عمّن كانوا يُساقون الى الغرب من إفريقيا مكبّلي اليدين والقدمين لخدمة السيد الأبيض بلا مقابل، وإن اعترضوا على قسوته، يزداد قسوة وجلدًا.
نبيل عمرو _وزير الاعلام الفلسطيني السابق في واحدة من زيارات الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى…
رامي سيمني-صحيفة يديعوت احرونوت الأخبار واضحة؛ سورية دولة مصطنعة تفككت، ولم يكن لديها حق فعلي…
طلبتُ من الذكاء الإصطناعي أن يكتب عبارة معايدة تناسب وضع العالم قبيل حلول 2025، فكتب…
أجرى المقابلة Pierre Barbancey لصحيفة L’humanité الفرنسية ترجمة : نادين كرم-باريس يعتبر هيثم منّاع من…
ديانا غرز الدين غالبا ما تكون العلاقات الاسرية معقدة وتحتاج بذل المزيد من الجهود من…
Les vitrines de Noël et leur mystère ! Nadine Sayegh-Paris Les vitrines de Noël parisiennes…