بارنيه مفاجأة ماكرون : ما المُنتظر لفرنسا وفلسطين
مرح إبراهيم-باريس
ضمت تظاهراتُ يوم السبت السّابع من أيلول نحو 110 آلاف شخص في مختلف المدن الفرنسيّة، تنديدًا بما اعتبروه “انقلابًا” أقدم عليه الرئيس الفرنسيّ بتعيين ميشيل بارنييه رئيسًا للوزراء؛ مبادرةٌ أطلقتها نقابات طلابيّةٌ في نهاية آب/أغسطس الماضي، تبنّاها حزب فرنسا الأبيّة، إلى جانب طلب إجراءات عزل الرئيس ماكرون، قدّمه للبرلمان. يبدو أن اليسارَ الفرنسيّ، وعلى رأسهِ حزب فرنسا الأبيّة، قد اختارَ الشارعَ وتعبئةَ الحشود تمهيدًا لخريفٍ سياسيّ يبدأُ بأجواءٍ ملتهبة.
فبعد مرور شهرين على الانتخابات التشريعيّة المبكرة، نتيجةَ حلّ ماكرون البرلمانَ في حزيران الماضي، وفوزِ تحالف الجبهة الشعبيّة الجديدة، وقعَ الاختيارُ على اسمٍ خرجَ عن صناديق الاقتراع : استمرّت معضلةُ الشخصيّة التي ستشغل منصب رئاسة الوزراء طيلةَ الصّيف، وسادَ خلافٌ ضمن الجبهة الشعبيّة الجديدة حول اسمٍ يمثّلُ التحالفَ في الحكومة، إلى أن انتهى باختيار لوسي كاستيس. إلّا أن الرئيس ماكرون ارتأى، في نهاية المطاف، تعيينَ شخصيّةٍ سياسيّةٍ يمينيّة من حزبِ الجمهوريين، كقاسمٍ مشترك وسطَ الصّراعِ القائم.
تردّدت عبارات عديدة تعبيرًا عن السّخط والغضب خلال التظاهرات الحاشدة يومَ السّبت: “طعن وإنكار الديمقراطية”، “الفرنسيون لم يصوّتوا لذلك”، “فليستقل ماكرون”. كما عبّر بعض المتظاهرينَ عن انطباعهم بانسداد الطرق أمام مشاركة اليسار في السّلطة، وعن خيبتهم الكبرى بعد التحرّك والتعبئة خلال الانتخابات للمشاركة والتصويت، ليكونَ ذلك في النّهايةِ دون جدوى. أمّا زعيم حزب فرنسا الأبيّة، جان لوك ميلانشون، فقد صرّحَ من قلب المظاهرةِ، مخاطبًا ماكرون، أنّ “الديموقراطيّة ليست فنّ قبول الفوز فحسب، بل التّواضع في قبول الخسارة أيضًا”، داعيًا إلى “معركة طويلة الأمد”. كما كتبَ نوابٌ فرنسيّون آخرون، عبر منصاتهم، أنّهم لن يشاركوا بعد في ما يسمّى الجبهة الجمهوريّة، كما فعلوا في ما قبل، لإنقاذ الكتلة الرئاسية تصديًّا لليمين المتطرّف.
يبدو أن ميشيل بارنييه قد وصل إلى أبواب ماتينيون بعد “مباركةِ” اليمين المتطرّف، المتمثّل بحزب التجمّع الوطنيّ، وإن نفت مارين لوبن مشاركتها بهمّة في تعيينه، إذ صرّحت : “يبدو أنّ رئيس الوزراء الجديد يلبّي على الأقلّ معيارنا الأوّل، أن يكونَ شخصًا يحترم مختلف القوى السياسية”، مضيفةً أنّه ” لم يتجاوز الحدود يومًا في تطرّقهِ إلى حزب التجمع الوطني، ولم ينبذه أبدًا. إنّه رجل حوار”. رأيٌ ينمّ عن قبولٍ مؤقّتٍ على الأقل، لاسيّما أنّها صرّحت في ما بعد أنّهم سوف يضعون الحكومة الجديدة “تحت المراقبة” ويتركون لبارنييه فرصةً لإثباتِ “قدرتِه على تغيير نظام البرمجة”. كما دعت الرئيسَ ماكرون في الأمس إلى إجراء استفتاءٍ يشمل القضايا الرئيسيّة للخروج من المأزق الحاليّ.
أصبحَ ميشيل بارنييه، “الجبليّ” البالغُ 73 عامًا من العمر، رئيسَ مجلس الوزراء الأكبر سنًّا في الجمهوريّة الخامسة وهوَ الذي كانَ أصغرَ نائبٍ في البرلمان عام 1978، بعمر 27 عامًا. ينتمي بارنييه إلى حزب الجمهوريّين وإلى تيّار الديغوليّة الاجتماعية، لُقّبَ ب”جو بادين” الفرنسيّ، لمرونته وقدرته على التوسّط بين جميع الأطراف، وبـ”السيد بريكسيت” إذ لعب دورًا تفاوضيًا جوهريًّا خلال خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبيّ. يُعدُّ ميشيل بارنييه رجلًا سياسيًّا مخضرمًا شغلَ مناصبَ عديدة خلال مسيرةٍ حافلة، لاسيّما كٍوزير للخارجية في عهد جاك شيراك، ونائب رئيس المفوضية الأوروبية، وعضو في البرلمان الأوروبي، عرفَ خلالَها بقدرته العالية على الحوارِ والتّفاوض.
كان لبارنييه مساهمات عديدة في قضايا الشرق الأوسط. طالما دعمَ حل الدّولتين، معتبرًا أنّهُ السبيل الوحيد الممكن لضمان السّلام الدائم في المنطقة، كما ساهمَ بدعم مبادرات السّلام، بالتّعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. انتقد بارنييه مرارًا الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب، كبناء المستوطنات في الضفة الغربية واعتبرَها عقبةً أمام السلام. دافعَ في تصريحاته عن حقوق الفلسطينيين و”مستقبلهم” إلى حدّ ما، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أهميّة أمنِ إسرائيل في مفاوضات السّلام. يرى بارنييه أنّه من الضروريّ احترام القانون الدولي، بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة، والبحث عن حلول دبلوماسية، بعيدًا عن الحلول العسكرية. كما عرفَ بارنييه بدوره في ردّ الفعل الدبلوماسيّ الفرنسيّ على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط /فبراير 2005، ودعم فرنسا قرار الأمم المتحدة 1559.
لا شكّ أنّ تعيين ماكرون رجلَ دولةٍ مخضرمٍ كميشيل بارنييه إنّما هو سعيٌ لتهدئة التوتّر في ظلّ الاحتقان السياسيّ السائد، نظرًا لسماته الديبلوماسيّة، ناهيكَ عن عدم تطلّعه إلى الترشَح في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة. لكنّ البعضَ يعتبرُ مسيرتَه، على تنوّع المناصب التي شغلها، باهتةً وضعيفةً سياسيًّا لا تؤهّله لإخراجِ البلاد من مأزقٍ تاريخيّ كهذا. وهوَ قبل كلّ شيء خيارٌ تجاوزَ كلمةَ الشّعب والأغلبيّة المنتصرة في الانتخاباتِ التشريعيّة الأخيرة، خيارٌ مهدّدٌ بحجبِ الثقة في البرلمان وحراكٍ أوسع في الشّارغ، قد يقلبانِ الطّاولةَ من جديد. فإلى متى سوف يبقى مفعول المسكّن هذا بعدما طُعنت الديمقراطيّة علنًا وظهرت ثغراتُها؟