روزيت الفار-عمّان
تعرّف المثاقفة أو التّثاقف لغويّاً، بعمليّة استيعاب حضارة أمّة لحضارة أمّة أخرى -تكون في العادة هي المهيمنة- وتؤثّر بالجانبين: الإجتماعي والنّفسي لدى الفرد أو الجماعة أو المجتمعات. ويظهر هذا الاستيعاب إمّا بالتّغيير الكلّي (بمعنى النّسخ والتّبنّي)، أو الجزئي، بمعنى التّعديل واستعارة سمات محدّدة من الثّقافة الأخرى، وممارستها.
أمّا الثّقافة، فهي مفهوم واسع وعميق يتجاوز حدود التّعريف الموحّد، فكلٌّ يعرّفها من خلال السّياق الّذي أورده بها. فهي عند البعض طريقة الحياة الكلّيّة للمجتمع بجوانبها الفكريّة والمادّيّة. وصفها آخرون بأنّها عمل ميداني تؤدّي وظائفها بأدوات المعرفة الظّاهرة مثل الأدب والفن والتّعليم، وبأدواتها الخفيّة كالفلسفة والتّاريخ والدّعاية والإعلام والتّراث الشّعبي وغير ذلك.
الثّقافة العربيّة الإسلاميّة.
كان لظهور الثّقافة اليونانيّة والفارسيّة في العالم الإسلامي تأثير في خلق ما يُعرف اليوم “بعلم الكلام”، الّذي وُلِد من أجل الدّفاع عن الإيمان أو العقيدة الإسلاميّة لمواجهة الثّقافة الوافدة سواء كانت زرادشتيّة أو هيلينيّة. فكان أوّل عملٍ علمي قام به العرب هو جمع اللّغة ووضع قواعدها؛ وعلى نسق ذلك نسخوا باقي علومهم. ثمّ تطوّرت بداية الثّقافة العربيّة الإسلاميّة. فالّلغة كانت أهم مكوّنات العقل العربي كما الدّين؛ وهي جزءٌ منه. ثم نشأ الاعتزال وتطوّرت الفلسفة العربيّة في ظلّ هذ المثاقفة المبكّرة. فكان هناك مَن دعا إلى “الانفتاح” على الثّقافات الأخرى مثل الفارابي وإبن سينا وابن رشد، وآخر مَن دعا إلى “معارضتها” وبشدّة، وهم”المتحفّظون أو الأصوليّيون” أمثال أبو حامد الغزالي والّذي انتقد تكالب فلاسفة المسلمين على الفلسفة اليونانيّة وقال في مؤلّفِهِ “تهافت الفلاسفة”: “مصدر كفرهم (فلاسفة المسلمين) سماعُ أسماءٍ هائلة كسقراط وأفلاطون وأمثالهم وانبهارهم بها”. ما يعني أنَّه كان لدى العرب والمسلمين مشكلة مع الثّقافات الأخرى منذ القِدَم.
قرأ المفكّرون العرب المعاصرون الثّقافةَ الواردة من أمريكا ودول أوروبّا الغربيّة؛ بأكثر من منظور. فمنهم من من دعا إلى ثقافة “الانفتاح أو التّغريب”، بمعنى تلقّي أو استقبال ثقافة الغرب وتوظيفها كمادّة نموذجيّة؛ دون أن يروا بأنَّها تشكّل أيّة أزمة، كالمفكّر الّلبناني “علي حرب“، ومنهم مَن رفضها رفضاً تامّاً ورأى في إدخالها مشكلة حقيقيّة وتعارضاً مع الثّقافة العربيّة والإسلاميّة كالسّلفيّين أو المتحفّظين، وفريق ثالث يرى أنّها تشكّل أزمة لكنّه لا يُمانع من إدخالها شرط أن تكون خاضعة للنّقد وفهم الآخر وتسليط الضّوء على المشكلات؛ كوسيلة لحلِّ الأزمة الّتي يعجز عن حلّها الانفتاحُ منفرداً، كالمفكّر السّعودي سعد البازعي. وهناك من عايش الثّقافة الغربيّة واختبر عنصريّتها وكتب عنها عدّة مؤلّفات يعارض فيها الفكر الإمبريالي بتفاصيله الدّقيقة، كالمفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد. ومفكّرون آخرون لهم مساهمات وإنجازات أثّرت في الفكر الفلسفي العربي والغربي؛ كالمفكّر المغربي كمال عبد اللّطيف وهو من دُعاة ثقافة الانفتاح وأحد تلامذة سعد الجابري والّذي أقرّ بأنّ الوعي بالهويّة إنّما يتحقّق من خلال الوعي بالآخر. والمصري الإسلامي عبد الوهاب المسيري وكثيرون غيرهم.
علي حرب.
تأثّر بفلاسفة الغرب وتحديداً “كانط”، وتبع منهجه وخصوصاً في نقد العقل وآليّاته وبنيته الفكريّة. رحّب حرب بالعولمة (المثاقفة) واعتبرها فكراً مُعمّماً على المستوى الكوني تتغيّر معه بنية الواقع بالذّات، وقال إن كنّا خائفين منها،علينا أن نساهم بها. (بينما الواقع يُظهر بأنَّها ليست كونيّة معمّمة، بل هي -وكما أكّد سعد البازعي– ثقافة محصورة بالثّقافة الأمريكيّة والغربيّة).
لا يرى حرب بالمثاقفة خطأً، بل فرصة للتّعارف على الثّقافات الغربيّة وينظر للعولمة بأنّها السّيل المتدفّق للمعلومات والبضائع وإمكان قابل للاستثمار والخلق والتّحويل.
تناول في كتابه “حديث النّهايات”فتوحات العولمة وأزمة الهويّة ونقد الثّقافات المُغلقة. رأى بأنَّ الثّقافات الضّعيفة هي الّتي تخشى العولمة بينما الثّقافات القويّة تدعو إليها. من أقواله:
عبد الوهّاب المسيري.
طرح المفكّر المصري عبد الوهّاب المسيري -أكثر المفكّرين العرب تخصّصاً في تاريخ الحركة الصّهيونيّة والقضيّة الفلسطينيّة- موضوع الغزو الثّقافي الغربي كأحد أشكال الغزو الفكري، وأوضح بأنّه أخطرها. تحدّث عن “التّحيّز” كعمليّة انضمام وموافقة في الرّأي ومشكلة معقّدة تواجهنا، حيث يحاول الغرب فرض نماذجه على شعوب العالم، ومنها العربي، وإن كان لكلٍّ منها تحيّزاته نحو واقعِهِ وتاريخه. وأفاد بأنَّه من “المؤلم” أن بدأت هذه الشّعوب بالتّخلّي عن تحيّزاتها الخاصّة وعن خصوصيّتها؛ وراحت تتبنّى التّحيّزات الفكريّة الغربيّة وأصبحت ترى نفسها من منظور ثقافة الغرب دون الانتباه لما تحمله تلك الثّقافة من مخاطر من شأنها تقويض داخل هذه الشّعوب والقضاء على هويّتها وأشكالها الحضاريّة ومنظومتها المعرفيّة والقِيَميّة.
دعا المسيري لضرورة التّخلّص من الإحساس “بمركزيّة الغرب”، وقام بتقديم نموذج بديل ضمن احترام خصوصيّة كلّ مجتمع، وتفكيك الخطاب الغربي المادّي الهادف لتحويل العالم لوسيلة تخدم التّطوّر التّكنولوجي وتنفي فكرة القيمة الّتي هي جوهر الإنسان، ومُدّعياً نفسه (أي الغرب) حياديّاً وموضوعيّاً.
دعا المسيري لتأسيس ثقافة مبنيّة على الحوار والتّفاهم والانفتاح على باقي الحضارات، شرط أن يكون هذا الانفتاح ناقداً ومتوافقاً مع أحكام الشّريعة الإسلاميّة وعقلانيّتها مرتكزاً على الاجتهاد والإبداع. فهو أعاد صياغة المفهوم الحقيقي للحداثة لينسجم مع البيئة العربيّة والإسلاميّة انطلاقاً من نظريّة التّكامل بين التّراث والدّين.
إدوارد سعيد.
مفكّر وبروفيسور جامعي فلسطيني. كان أوّل مَن أسّس للاتّجاه لما بعد الإمبرياليّة ولنشأة النّقد الثّقافي. قدّم نفسه كمثقّف “لا منتمٍ” بمعنى أنَّه لا ينتمي لأيّ عرق أو قوميّة أو اتّجاه فكري أو حزبي معيّن؛ لكونه يرى بأنَّ الانتماءَ يغطّي الانسانيّة بكاملها؛ أي كافّة قِيم الحرّيّة والعدالة. له مؤلّفات فكريّة مهمّة “كالاستشراق”، “وثقافة الامبرياليّة” وكثير غيرها. بحث فيها قضايا الفكر الإمبريالي وممارساته، ورأى المثاقفة كصراع بين الأمم الغالبة -الّتي أباحت لنفسها احتلال أُمم ضعيفة وتمكّنت من قهرها وإذلالها مُستخدمة الثّقافةَ لتبرير طغيانها وتمرير خططها- وبين الأمم المغلوبة.
*الامبرياليّة الغربيّة بمعناها الّلغوي هي بسط النّفوذ الأجنبي عرقيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً ثمّ ثقافيّاً من قِبل أمّة على أمّة تحت دعاوي “التّمدين” أو الوحدة أو الّلحاق ب “العولمة”. وخير مثال على ذلك الهيمنة البريطانيّة على الهند.
تحدّث عن دور الثّقافة في الفكر الإمبريالي وقال بأنَّ الإمبرياليّة استقرّت بأدوات الثّقافة واهتزّت أركانها بأدوات الثّقافة ذاتها المُقاوِمة. فالأمم المغلوبة لا يأتي تحريرها إلّا بأدوات الثّقافة الّتي زرعت الوعي وأيقظت الحسَّ الوطني والدّيني لرفض الاستعمار والمطالبة بالاستقلال. وقد يفسّر هذا السّبب الّذي ذهب المثقّفون المغاربة خلفه إلى ماضيهم ومجدهم الإسلامي ليستوحوا منه روح المقاومة ضدَّ الاستعمار الفرنسي.
تناول سعيد في كتابه “ثقافة الامبرياليّة” أحداث العولمة الطّاغية؛ كي يفتح أعيننا نحن العرب على حقائق الهيمنة الثّقافيّة الجديدة المتخفّية ببرقع الشّعارات ليسهل الاستحواذ على ثرواتنا ومصائرنا.
محمد عابد الجابري.
المفكّر المغربي الإسلامي النّاقد. له مؤلّفات في الفكر المعاصر. ركّز طيلة حياته على مشروعه النّقدي للعقل العربي تكويناً وبناءً ونقداً من أجل النّهوض بالعرب واللّحاق بالأمم المتحضّرة. وأفاد بانّه نتيجة للصّدمات الّتي ضربت العقل العربي؛ أصبح العرب متأرجحين بين تبنّي مشاريع “محليّة” متصالحة مع قِيمها ومبادئها وتعتمد على الذّات العربي الإسلامي في صياغة مشروعها النّهضوي، وأخرى “مُستورَدة” متعارضة مع الخصوصيّة العربيّة الاسلاميّة وتعتبرها مصدراً للجهل والتّخلّف والشّعوذة، وبأنّه لا يمكن أن تحدث أي نهضة عربيّة دون إقصاء للتّراث العربي الإسلامي واستعارة النّموذج الغربي وتطبيقه على أرض الواقع.
اختار الجابري مشروعه المتصالح مع الذّات ورأى بأنّ على أي نهضة عربيّة معاصرة، إن أريد لها النّجاح، أن تنبع من هذه الأرض وترتبط بماضي العرب وتاريخهم.
باختصار.
لا بدّ من الاعتراف بأنَّ الثّقافة العربيّة؛ كالحياة العربيّة تعيش سلسلةً من الأزمات المعقّدة العالقة الّتي لا تزال تنتظر حلّاً.
المراجع:
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…