مقال اليوم

الألعاب الأولمبية بين فلسطين وروسيا..مرحبًا بالخراب

بقلم ميشيل رامبو

( سفير فرنسي سابق وكاتبٌ شهير له مؤلفات عديدة حول الشرق الأوسط)

ترجمة مرح إبراهيم

 يتبختر الغَربُ منذ أكثر من خمسة قرون، وربّما منذ آدم وحواء، في مركزِ  الكون، وسطَ حدائقَ رائعةٍ،  تتألّقُ فيها أزاهيرُ الإنسانية، وسطَ أنهار اللبنِ والعسل. إنّه لَمشهدٌ مدهشٌ، ترعاهُ شخصيات متغطرسة، تتحكم بمصائر الشعوب الأطلسيّة، مشهدٌ حُقن في أدمغة المواطنين عامّةً، منذ نعومة أظفارهم، يصوّرُ بقيةَ الكوكب غابةً تسرحُ فيها “الضواري”، لا بل “حيوانات بشرية”: لا شكّ في أنَ هذا التعبيرَ يذكّركم بالأخبار الرّاهنة الملتهبة.

يتباهى الفرنسيّون بأنّهم من الأوائل وأن “أمّتهم العظيمة” تبقى، على الرغم من المصاعِب الشاقّة وأهوالها، منارةً يقصدُها العالم سعيًا إلى النور. وتتخيَّل نُخَبُهم أنّهم محطّ الأنظار المولعة باستثنائية الفرنسي وبريقه. ومن ثمّ يبدو بديهيًّا أن يكونَ تنظيم دورة الألعاب الأولمبية في باريس لعام 2024، التي نالتها بصعوبة في غابة الرياضة الدوليّة، بمثابة هبة من السماء ـ لا بل فريسةً ـ تُسيل اللّعاب.

لا أعتزم التّقليل من شأن التّحدي الذي يمثّلهُ هذا الحدث العالمي: جاء في سياق وطني مضطّرب ووضع دوليّ متفجّر، تضافرت العوامل كلُّها بُغيةَ جذب انتباه الكوكب، إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، لا بل إلى تغذية الإعجاب بعبقريّة المنظّمين المُبدِعَة وبراعتهم الظاهرة.

لا بدّ أنّ سلطة ماكرون، التي هزّتها مُباغتة الفوضى السياسيّة، الناتجة عن تعاقب النكسات الانتخابية (ارتجال اقتراعين وطنيين لتصحيح مسار النتائج الانتخابيّة الأوروبيّة)، وجدت في الألعاب الأولمبية الترياق القادر على طمس الوَهنِ الذي تعاني منه على الصُّعُدِ كافّةً، السياسيّة، والاقتصاديّة، والماليّة. تبدو لنا الألعاب الأولمبيّة، للوهلة الأولى، مُكلَّلة بالنجاح رسميًّا، إذ لم تكن باريس ـ منذ نهاية شهر تمّوز/يوليو، بين مآثر رياضييها والجرأة التي أضاءت الاحتفالات وأذهلت جماهير مُشاهديها ـ إلّا قوسَ نصرٍ عملاق: كلٌّ يطالب بحصّته من النجاح، والنُّخبُ في حالٍ من الرضا عن الذات، كأنّها جوقة كاستافيور تتباهى بجمالها، باسِمَةً، أمام المرآة.

لكنْ ليس بوسعنا، في نهاية المطاف، أن نتجاهل وجه هذه الألعاب الآخرَ، أعني وجهَها السياسيّ. ها هنا التحقَ الأثينيون، إن امكننا القَول، بالأرواحِ الشرّيرةِ التي سرعانَ ما أشاحت بنظرها مُكتَشِفةً في مدينة النور مجرّدَ ضَربٍ من ضُروبِ النّفاق الغربي…. فعند افتتاح الألعاب،  في22 يوليو/تموز، أصدر الرئيس ماكرون، ذو الثّقافة العالية، مرسومًا بـ “الهدنة الأولمبية والسياسية”، معلنًا انتهاءها يوم الأحد 11 آب/ أغسطس، أي يوم الاختتام. في الواقع، سُرعان ما وُضِعَ الأساس “الأولمبي” على الرفّ: إنّه تقليدٌ مبدئي نشأَ في قلب بلاد الإغريق، سقطَ في غياهب الّنسيان قبلَ أن يُبعَثَ في العصر الحديث. كان الهدفُ منه إيقاف الحروب بين المدن اليونانية: تبدأ الهِدنةُ من اليوم السابع قبل افتتاح الألعاب حتى اليوم السابع بعد اختتامها. كانت غاية إيقاف الأعمال العدائية تقتضي السماحَ للرياضيين والفنانين والآباء والحُجّاج بالقدوم وحضور الألعاب الأولمبية أو المشاركة فيها والعودة إلى ديارهم بأمان. لكن من الواضح أنّ الهدنة لم تُعتَمد في حفل الافتتاح لهذا الغرض.

بطبيعة الحال، اسُتبعدَت روسيا، هذه الدولة الأولمبية الكبرى، بسبب الحرب الأوكرانية التي يعدُّها الغرب “عدوانًا غير مُسوَغ”، بعد أن امتثلت فرنسا لقرار اللجنة الأولمبيّة الدوليّة، الخاضعة لضغوط واشنطن. استُبعدت روسيا، بعَلَمِها ونشيدها الوطنيّ، فقط ستّة رياضيين روس جاؤوا فُرادى. فيما يعمَد “الغرب الجماعي” (الولايات المتحدة، وإسرائيل، والأنجلوسكسونيون، والاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي وغيرهم من الوكلاء) إلى تغذية الاستفزاز علناً ضد روسيا والصين وإيران، الاستفزاز الذي ينزِلِق بخطى حثيثة نحو حرب شاملة، حتى لو كان الثمن انفجارًا نوويًّا. ألم يكن بوسع فرنسا أن تحاول تسجيل موقف لصالحِ الهدنة، بإبراز إمكاناتها في أن تكون وسيطةَ السّلام، في سبيل الحفاظ على المستقبل؟ لا ريبَ في أن الكثيرين قد أمِلوا أن يروا إشارة من جهة فرنسا، لكن بلا جدوى…

أمّا دولة إسرائيل، التي ترتكب إبادةً جماعيّةً وحشيّةً في فلسطين منذ عشرة أشهر، أمام أعين الإنسانية جمعاء، مدانَةً من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فأرسَلت رياضييها، ورُحّب بهم كأنّ شيئًا لم يكن، دون أن يثير وجودهم حفيظةَ مجيدِنا الخارج عن الزمن، الذي لا يكترث بصغائر الأمور. كما أدلى بدلوه في نهاية الألعاب الأولمبية، مخاطبًا المسؤولين الذين شاركوا فيها : “هذا الصباح ينتابنا جميعًا شيء من الحنين. لا نريد أن تعود الحياة إلى طبيعتها. لأن الحياة الحقيقية هي ما عشناه في الأسابيع الماضية.. الحياة الحقيقية “. وكما يقول المثل المأثور: “ليس حرِيّاً بالرئيس أن يقول ذلك”. هل يَحسَبُ أن هذه هي “الحياةُ الحقيقيّة” لمن يتعرّضُ للإبادةِ الجماعية والتعذيب في فلسطين. لا يبدو أنّ هذه المسألة تثير اهتمامه !.

يومَ السّبت، العاشر من آب/أغسطس، وفي إطار مجزرةٍ جديدةٍ من بين مجازرٍ لا تحصى منذ السابع من أكتوبر، استهدفت قوّات الاحتلال الإسرائيلي مدرسةً أخرى في قطاع غزة، في غارة أسفرت عن مقتل 93 شخصًا، وفقَ بيان السلطات المختصة. ولم تُخفِ المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، سخطها، إذ لم تتردد في وصف الجرائم الوحشية التي ارتُكِبت على مرأى ومسمع من الإنسانية جمعاء، قائلةً: “بعد أكثر من عشرة أشهر من “الحرب على قطاع غزة”، “في أكبر معسكرات الاعتقال وأكثرها عارًا في القرن الحادي والعشرين، ترتكب إسرائيل إبادةً جماعيّةً ضدّ الفلسطينيين، فتُدمِّر حيًا بأكمله، مستشفى بأكمله، مدرسةً بأكملها، مخيّمَ لاجئين بأكمله”، حسبما صرّحت عبر منصّة X. كما أشارت إلى أنّ إسرائيل تنفّذ ضرباتها ضد الفلسطينيين “بالأسلحة الأمريكيّة والأوروبيّة”، مضيفةً : “فليسامحنا الفلسطينيون على عجزنا الجماعي عن حمايتهم من خلال احترام القانون الدولي، بالمعنى الأساسي للكلمة”.

فَسواءٌ أنجحتِ الألعابُ الأولمبية أم لم تنجَح، نتساءل عن أهمية ذلك في ضوء مأساة الفلسطينيين، وخصوصاً النساء والأطفال والرضع والمعتقلون، وما يشهدون من اغتصاب وقتل وذبح، بدفنهم أحياء تحت الأنقاض، ومعاملتهم معاملة الحيوانات. يبدو التعاطفُ مُنعدِمًا مع هؤلاء المعذّبين منذ ما يقارب العام، بالوحشية العمياء ذاتها، والتي تطال بشكل متزايد الضفّةَ الغربيّة. هذه الدولة التي تمارس الإبادة الجماعية والتطهير العرقيّ بحقّ الفلسطينيين، وكأنّها رياضة وطنية، تسخر كليًّا من الهدنة الأولمبية،…أمّا الدّول الغربية، فلا صوتَ فيها، لا احتجاجَ ولا إجراءَ ملموسًا يُذكَر لإدانة دولة إسرائيل. لكن على النخب التي تتعجرفُ في بلاد الاستكبار أن تدركَ أن المسؤولين والجلّادين، وكلّ من قدّم لهم الدّعم، سوف يُحاسَبون عاجلًا أم آجلًا على جرائمهم الشّنيعة : إنّهُ موضوع يستحقّ التأمل، بانتظار قضاء الله أو حكمِ التاريخ. 

ولا يقتصرُ الأمرُ على ندمٍ مَعدومٍ لم يُملهِ الضمير عليهم، بل هم مستمرّون بسابق تصميمٍ وإصرار. وللمرة الأولى منذ تأسيس اجتماع السّفراء، قبل ثلاثين عامًا، الذي يُعقدُ عادةً في باريس، في النصف الثاني من شهر آب/ أغسطس، تمّ إلغاؤهُ بسبب الألعاب، حسبَ ما أُعلنَ رسميًّا. يجدرُ التطرّقُ إلى دوافع هذا القرار لاحقًا. يُعدّ ماكرون الرئيسَ الثالث في سلسلة الرؤساء الذين لا يكنّونَ الودّ لوزارة الخارجيّة ولا للدبلوماسيين. يفهم كلّ من ساركوزي وهولاند وإيمانويل ماكرون (رجل الفكر المعقّد)،  خلالَ أربع وعشرين ساعة ما لا يفهمه الدبلوماسيّ (الألمعي أو البسيط) على الرغم من سِنّيِّ خبرته. وهذه طريقة اعتراف ضمنيّ بأن فرنسا فقدت أيّة نيّة في الاستقلال عن أسيادها الثلاثة: أمريكا المقدّسة، وإسرائيل “بيبي” وعيون أورسولا الجميلة، الغاصِبة المُحتالَة. الجوّ لطيفٌ في “الحضن الأطلسي”، ومن المريح الاستعانة بالـ “السيادة الأوروبية”: كيف لنا أن نتعاطف مع الفلسطينيّين والعرب في ظلّ هذه التركيبة؟ فلتتحمّل وزارة الخارجيّة مسؤوليةَ ما اقترفت، فهي تستحقّ “العقاب” على جريمتها. لا سلك دبلوماسيّ، ولا سلك شرقيّ، ولا سياسة عربيّة لفرنسا، ولا اجتماع سفراء: فيا سياسةَ الجنرال الكبير، وداعاً!… ومرحبًا بالخراب.

lo3bat elomam

Recent Posts

غيمةَ العطر..اسكبيها

مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…

4 days ago

Et si le maquillage n’était pas seulement une affaire de femmes !

Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…

5 days ago

هآرتس: لم نحقق شيئًا، ولم نهزم أحدًا، واقتصادُنا منهار وشبابُنا يهاجرون

ترجمة عن صحيفة هآرتس  لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…

5 days ago

ملتقى أبو ظبي: وهم الاستقرار في عالم مضطرب ولكن….

 ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…

6 days ago

Quand changer l’heure devient une affaire d’état !

Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…

2 weeks ago

ماذا سيفعل ترامب في فلسطين واوكرانيا

  Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…

2 weeks ago