ثقافة ومنوعات

صلاة تشرنوبيل: وما أشبه البارحة بغزّة

 ديانا غرز الدين

نحن نستعد للحروب ببناء الملاجىء و التحصينات، و شراء و تخزين كل ما يلزم من الأغراض الضرورية للبقاء. لكن ماذا لو كانت هناك حروب من نوع اخر، لا تستطيع رؤيتها ولا سماعها، بل فقط تتنفسها و تشعر بها ؟ كيف تحارب عدوًا يستوطن الهواء و الماء و الزرع و يعشش في مسامات كل الاشياء حولك بما فيها مسامات جلدك؟ لا شك أَّن الانسان سيقف عاجزًا امام قوى لامرئية و اشعاعات ستحدّد مصيره و تغيّر حياته و الحياة التي عرفها الى الابد.

 لا يحب الناس أن يسمعوا عن الموت. شارع بأكمله يسمونه شارع تشرنوبل، يعيش فيه أناسٌ عملوا طوال حياتهم في المحطة. الكثير منهم ما زال يذهب إلى هناك للمناوبة. لا يعيش احد هناك . و لن يعيش فيها احد ابدا. لدى الجميع أمراضٌ صعبة و اعاقات، و لكنَّهم لا يتركون أعمالَهم. يخافون من التفكير بذلك. لا توجد لديهم حياةٌ بدون المفاعل. المفاعل هو حياتُهم . اين و مَن اليوم يحتاجهم في مكان آخر؟

غالبًا ما يموتون ، يموتون فجأة ، في الطريق ، مشى و سقط، غفا و لم يصحُ ، حمل الورد للممرّضة و توقَّف قلبُه، إنَّم يموتون ، لكنَّ احدًا لم يسألهم بشكل جدي ، كيف كانت معاناتُهم..و ماذا شاهدوا.. كانت الصحافية البيلاروسية سفيتلانا الكيسيفتش جاهزة لنقل وقائع و يوميات سكان تشرنوبل المنكوبة . تلك المدينة المهجورة المنسيّة ، نقلت مشاهد من حياتهم اليومية، مشاعرهم ، اراءهم ، طفولة أولادهم المسلوبة و حياتهم التي لم تعد ابدًا كما كانت من قبل .

نقلت معاناتهم من نكبة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. كتبت و جمعت الاحاسيس اليومية و الافكار و الكلمات للناس العاديين. لأولئك الذين عاشوا بظروف غير عادية، روت كيف أُجبروا على أن يكونوا، و ان يرتفعوا ليصبحوا بمستوى تلك الظروف. سنواتٌ طوال مضت قبل ان يستطيع السكان استيعابَ ووصفَ ما حدث، كان شيئا خارقًا للمألوف لم يحدث من قبل.

احدى النازحات من مدينة بربيات القريبة من مكان المفاعل وصفت الحدث كما يلي :” ساعة الانفجار، حلَّ محلَ الذعر المتوقع حالةٌ من الدهشة، فقد كسا الأفق سحرٌ خاص، وهجُ شديد قرمزي اللون، سطع المفاعل بضوءٍ بدا كأنَّه خرج من داخله، لونٌ غريب، كان حريقًا استثنائياً ، لهيبًا، بدا جميلا، و لو تجنبنا التفكيرَ في كارثية الحدث ، فإنَّ المشهد بدا رائعًا ، …. لم نكن نعلم أنَّ الموت قد يكون جميلاً هكذا،.. لم يعلم احدٌ حينها انَّه السحر الذي يصحب النهايات”.  

حكاياتهم المليئة بالألم و الحزن يمتزج فيها حنين إلى ماضٍ لم يعد له وجود، ألى مدينة بقيت رغم مرور السنوات الطوال محافظة على رونقها و روعة طبيعتها . ولكن  يرقد السُمُّ في كلّ شبر منها؟ ما الذي بقي في الارض الميتة، بعد ان تركها الناس؟ لقد انقذ الانسان نفسه و خان الباقين جميعا، دخلت القرى بعد النزوح مجموعاتٌ من الجنود و أطلقوا النار على الحيوانات فقتلوها، الكلاب كانت تنتظر اصحابها و تحرس البيوت . ركضت نحو الصوت البشري ، و القطط ، و الخيول ، لكنهم أطلقوا النار عليها ، لم تستطع هذه المخلوقات فَهمَ ما يحدث، لماذا يطلقون النار عليها؟ هي غيرُ مذنبة في شيء. لقد ماتت في صمت.. 

الا يُذكّركم الأمرُ بشيء يحدث الان بين ظهرانينا؟ اليس ذاك الموت الجماعي بسبب أطماع بشرية هو الذي أباد بالأمس عن طريق الخطأ ويُبيد اليوم عن قصد. أثمةُ فرق فعلاً بين تشرنوبل وغزّة؟ لكن مَن يُحاسب؟ ثمة شعوب لا يحق لها حتّى حقُّ المحاسبة .

سفيتلانا الكيسيفتش صحفية و كاتبة ولدت في أوكرانيا عام ١٩٤٨. صاحبة رواية صلاة تشرنوبل التي نشرت عام ١٩٩٧، حائزة على جائزة نوبل للآداب عام ٢٠١٥ ، هي الآتية من دولة صغيرة منسية (روسيا البيضاء) اخذت على عاتقها كتابة الروايات بأسلوب وثائقي لإيصال الاصوات الانسانية، تركت شخصياتها تعبرعن نفسها بنفسها . من كتبها الشهيرة ايضا رواية، و هي مجموعة شهادات ناجين من حروب أفغانستان الوحشية.

lo3bat elomam

Recent Posts

أنا وجسدي والعيد: سيادة من تحت الركام

أ.د ماريز يونس ( أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية) في ذلك الصباح، لم يكن…

3 days ago

Des salles d’asile à l’école maternelle !

Des salles d’asile à l’école maternelle ! Nadine Sayegh-Paris Evoquer l’école nous fait directement penser à…

2 weeks ago

الإصلاح والسلاح ومصير لُبنان

سامي كليب افتتاحية-الصراحة افضل الاستقبال الاستثنائي الذي أحيط به الرئيس جوزيف عون في السعودية، والذي…

2 weeks ago

Du natron au sapo, pour arriver au savon !

Du natron au sapo, pour arriver au savon ! Nadine Sayegh-Paris Le savon, produit d’hygiène et…

3 weeks ago

تراجيديا السّاحل : عندما تُقتلُ مرّتين

مرح إبراهيم ثلاثة أشهر مرّت على اللحظة النفسيّة التي جسّدتها ليلة الثّامن من كانون الأوّل…

3 weeks ago

الحدث السوري والغرائز المتوحشّة منذ الثمانينيات حتّى اليوم

سامي كليب: كتب عالِم النفس الشهير سيغموند فرويد منذ عقودٍ طويلة : " إن الإنسانَ…

4 weeks ago