مقال اليوم

التضامن العالمي مع فلسطين، لحظّة التحوّل المفصليّ

  روزيت الفار-عمّان

تعود فكرة “التّضامن” في التّاريخ الحديث للقرن ال19 إلى حركات التّضامن العمّاليّة المتأثّرة بفكر كارل ماركس، الّتي ما لبثت أن تحوّلت لحركة عالميّة شعارها “جرح أحدنا جرح جميعنا”. أتى بعدها القائد الشّيوعي فلاديمير لينين منادياً بحرّيّة الشّعوب المُستَعمَرة وحقّها في الدّفاع عن نفسها وتقرير مصيرها وداعياً لخلق حركات نضاليّة شاملة غير مقتصرة على العمّال.

التّضامن ليس شعاراً

التّضامن هو عمل جماعي، منظّم محلّيّاً، يقوم على المبادئ والقِيَم المشتركة بين الشّعوب والحركات، والتّنسيق فيما بينها، وصولاً لتحقيق الغاية الّتي أُنشأ من أجلها. كحركات السّلام والعدالة، حقوق السّود والعمّال والمرأة والمهمّشين والمضطّهدين والمستَعمَرين، المنتشرة في العالم، ومنها “حركات التّضامن الدّوليّة لدعم فلسطين” الّتي أصبحت تشكّل الآن جزءاً مهمّاً من الحركة النّضاليّة العالميّة.

وتعتمد كلّ حركة في تركيبتها وقواعدها على نوعيّة خطابها التّضامني مع فلسطين والّذي بدوره يخضع للمكان الّذي توجد به وطبيعة ارتباطه بالقضيّة الفلسطينيّة والتّجارب النّضاليّة الّتي مرَّت بها شعوبه. ونلمس هذه الجوانب بوضوح أكبر؛ لدى شعوب الدّول الّلاتينيّة وجنوب أفريقيا والدّول النّامية والعربيّة والإسلاميّة والّتي خاضت تجارب مُشابهة.

قضيّة التّضامن مع الفلسطينيّين ليست وليدة السّاعة

إن أردنا فهم ما يحدث الآن؛ علينا الرّجوع لتاريخ نشأتها الّذي ارتبط بمؤتمر باكو الّذي دعا له الحزب الشّيوعي السّوفييتي عام 1920، غير أنّ بروز القوّة الصّهيونيّة العمّاليّة الّتي تبنّت فكرة التّضامن الأمميّ بين العمّال وساهمت في احتلال فلسطين، عرقل هذه الحركة وأنتجت حركتي عمّال: الأولى فلسطينيّة تريد التّحرّر من الاستعمار، والثّانية يهوديّة تريد البقاء في الأرض الّتي احتلّتها.

وفي الفترة الواقعة بين تموز 1936 و1939، شهدت إسبانيا حرباً أهليّة ساند فيها كثير من الفلسطينيّين الشّعب الإسباني ضدَّ ديكتاتوريّة فرانشيسكو فرانكو، ممّا عزّز التّضامن بين الشّعبين؛ لكنّه أُحبط من الحركة الصّهيونيّة.

قامت حركات تضامنيّة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللّاتينيّة لتحتضن الشّعوب المقموعة؛ ممّا ساهم في وحدة قتال الشّعوب المستَعمرَة ضدَّ المستعمِر البريطاني والفرنسي، وكانت فلسطين آنذاك مستعمرة من بريطانيا فزاد حجم التّضامن معها وخاصّة بعد 1948، عام النّكبة، وسيطرة المحتلّ على أراضيها.

استمرّ الدّعم العالمي لفلسطين للسّنوات اللّاحقة. هنا نذكر مؤتمر حركة عدم الانحياز الّتي تأسّست عام 1955 في إندونيسيا والّتي كان جمال عبد النّاصر أهمَّ قادتها وتشي غيفارا أحد أهمّ قادة الثّورة العالميّة والّذي زار غزّة عام 1959 داعماً ومؤيّداً لشعبها. وشهد العالم بعيد ذلك انتصار كوبا على الامبرياليّة الأمريكيّة.

ظهرت في الفترة ذاتها منظّمة التّحرير الفلسطينيّة والاتّحاد العام لطلبة فلسطين، الّذي ساهم برفع مستوى الوعي وتنظيم الطّلبة في العمل السّياسي والفدائي وبناء وتطوير حركات التّضامن مع فلسطين، إضافة للاتّحاد العام للمرأة الفلسطينيّة الّذي قام بذات المهمّة لكن بتأثير متواضع.

دعمت الصّين المقاتلين والمُزارعين الفلسطينيّين وذلك بتدريبهم حسب رؤيتها للماركسيّة، ممّا جعلها قريبة منهم ومناهضة للصّهيونيّة، لحدٍّ ما، قبل قرار الاتّحاد السوفييتي الاعتراف بالمقاومة الفلسطينيّة ومدّها بالسّلاح وتدريبها.

وفي حركة السّود الأمريكيّين، قاتل الأمريكي الإفريقي مالكوم إكس وروبرت إف ويليامز، إضافة لمجموعات من المثقّفين والأكاديميّين والنّشطاء؛ ضدَّ العنصريّة ونصرة لحقوق السّود وناهض الحركة الصّهيونيّة ودعم الفلسطينيّين. كان ذلك بفترة السّتّينات الّتي شهدت حركة التّحرّر الوطني الفلسطيني.

وفي عام 1970، صدرت أولى البيانات المتضامنة مع النّضال الفلسطيني من قبل تلك المجموعات وتمّ نشرها بصحيفة نيويورك تايمز. كان ذلك دليل ربطٍ واضح بين تحرير فلسطين وتحرير إفريقيا من الاستعمار وتحرير السّود في أمريكا من تبعات العبوديّة والاستعمار.

حارب الغرب القضيّة الفلسطينيّة كواجهة للدّول الاشتراكيّة؛ وعلى رأسها الاتّحاد السّوفييتي، بحجّة رفضِهِ للشّيوعيّة الّتي كان يصوّرها وحشاً يريد التهام دوَلِه. (وكأنّ ليس للفلسطينيّين قضيّة يدافعوا عنها بأنفسهم ومنساقون خلف الاتّحاد السّوفييتي. تماماً كمحاولة الصّهاينة والغرب الآن الادّعاء بانسياق حماس خلف إيران ولا تتحرّك إلّا بأمر منها).

حدثت بعد ال1967 تطوّرات على السّاحة الفلسطينيّة تبلورت معها حركة التّضامن. فالسّود الأمريكيّين وشعب فييتنام والشّعوب المساندة لحركات التّحرّر الكوبيّة؛ أعلنوا تضامنهم مع الفلسطينيّين وأصبحوا يشكّلون جزءاً من التّحالف معهم.

لم تغب المغرب والجزائر يوماً عن مساندة الفلسطينيّين الّذين قاموا بدورهم بمساندة الجزائريّين في حربهم التّحريريّة ضدّ المستعمِر الفرنسي.

كان المفهوم النّضالي الفلسطيني يتعمّق أكثر عبر النّشاطات الفلسطينيّة كحركات ثوريّة مقاومة؛ ساعدها الكثير من الشّعوب الأخرى ودرّبوهم سواء من إيران أو لبنان وحتّى غواتيمالا وغيرها من شعوب العالم المقهورة.

تطوّرت الحركة كتحالف في 29 نوفمبر 1981، أُقيم من أجل بناء أكبر مسيرة تضامنيّة لأجل فلسطين واعتُمد بعدها هذا التّاريخ مناسبة سنويّة للتّضامن العالمي مع فلسطين. ضمَّ التّحالف أكثر من 100 منظّمة وحركة تحرّرعالميّة بما فيها اليهود المعادين للصّهيونيّة. وقد تمّ إحياؤه بعد اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 دعماً للشّعب اللّبناني والفلسطيني ورفضاً للاجتياح. لكن وكالعادة، قامت قِوى مضادّة عملت على إسكاته.

في عام 1983 تمَّ تغيير إسم التّحالف إلى “لجنة التّضامن مع الشّعب الفلسطيني” واستمرّت بنشاطها حتّى 1994 وتوقيع اتفاقيّة أوسلو المشؤومة؛ حيث تحوّل بعدها من تحالف مكوّن من منظّمات مختلفة إلى مؤسّسة واحدة منتظمة العضويّة بقيادة واحدة، وأخرى بقيادة أفقيّة دون قيادة واضحة مثل “حركة التّضامن العالميّة” والّتي يمارس فيها الجميع ما يمليه عليه دوره ورغبته.

ظهر دور هذه الحركة خلال الإنتفاضة الأولى وتوسّع خلال الثّانية وكانت النّاشطة الأمريكيّة راشيل كوري إحدى ضحاياه الّتي أغتالها الاحتلال على أرض فلسطين أثناء قيامها بعملها بالعام 2003. تركّز الجهد حينها على تفعيل نشاط الحركة العالميّة لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها وعلى كل مّن يدعمها ويموّلها ويرعاها.BDS  (Boycott, Divestment and Sanctions). ساعد ذلك في تعزيز حركة التّضامن في العالم وأصبحت تمتلك قوّة اقتصاديّة تجبر بعض المؤسّسات والشّركات والجامعات على إيقاف الدّعم المُقدّم لإسرائيل، وهو ما تمَّ ويتمُّ الآن بالفعل.

شكّلت حرب 2014 نقطة محوريّة على صعيد إحياء الحركة، ساعدها في ذلك صمود المقاومة الطّويل والجرائم الإسرائيليّة المرتكبة بحقّ الفلسطينييّن. كما وتمكّنت الحركة من تحريك جميع التّحالفات الرّافضة للإسلاموفوبيا والعنصريّة والأخرى المناضلة من أجل حقوقها وحقوق المضّطهدين في العالم، لصالحها، ونتج عن ذلك خلق حركة تضامنيّة عالميّة قويّة؛ خصوصاً بعد 7 أكتوبر 2023.

كان لوسائل التّواصل الاجتماعي دور نوعيّ كبير في نقل ونشر فيديوهات ومقاطع توثّق ما يحدث على الأرض -وخصوصاً أرض غزّة- بلا رقيب؛ متجاوزة معضلة الإعلام المأجور الحامل لأيديولوجيا الصّهيونيّة، في تحييد وإخفاء الحقيقة، ممّا ساهم في تحريك شعوب العالم للتّضامن مع القضيّة.

كان لظهور حماس كلاعب أساسيّ في الانتفاضة الأولى والثّانية دور في خلق “التّعدّديّة السّياسيّة والفكريّة” على السّاحة الفلسطينيّة والّتي كانت مقتصرة على “فتح” والحركات اليساريّة، حيث أضافت إليها “الحركةَ الإسلاميّة”. الأمر الّذي شجّع الكثير من الإسلاميّين على الاندماج وتنظيم صفوفهم ضمن حركة تضامنيّة واسعة مع فلسطين.

هيّأ زيف الرّواية الصّهيونيّة وتراكم الكمِّ الهائل من المجازر والحصار والاضطّهاد بحقّ الفلسطينيّين على مدى ما يقارب الثّمانية عقود؛ لثورة 7 أكتوبر الّتي رفض فيها الكثير من الفلسطينيّين والعرب ودول العالم؛ إدانة حماس كفصيل إرهابيّ؛ بل أصبحت قوى التّضامن العالميّة داعمة لها في حربها ضدَّ المحتلّ ودحضت جميع الادّعاءات الّتي أُلصقت بها زوراً؛ كعمليّات اغتصاب الرّهينات وقطع رؤوس الأطفال.

من أبرز المضامين الخطابيّة الّتي يركّز عليها التّضامن، العدالة من أجل فلسطين ورفض جميع أشكال العنصريّة. رفض وجود الكيان الصّهيوني والحركة الصّهيونيّة العالميّة، مستخدمة شعارات واضحة مثل “من حقّ الفلسطيني الدّفاع عن نفسه ضدَّ القمع والظّلم”، “فلسطين حرّة من البحر إلى النهر”. “الحقّ في العودة إلى فلسطين التّاريخيّة كلهّا”. وهذا محور شعارات وخطاب حركة التّضامن نحو “تحرير كامل الأرض”، الّذي أصبح ممنوعاً في دول غربيّة كثيرة.

واجهت الحركة على مدى تاريخها تحدّيات صعبة؛ أهمّها، المشروع الصّهيوني، وما زال المتضامنون يواجَهون بالقمع والعقوبة المفرطة. ناهيك عن ضعف التّمويل مقارنة بذاك اللّامحدود وغير المشروط الّذي يلقاه المشروع الصّهيوني المُضاد.

وبالرّغم من جميع التّحدّيات؛ تمكّن هذا التّضامن، والّذي تنامى وتعاظم بعد 7 أكتوبر، من رفع مستوى ثقة العالم به وبانتصار الثّورة الفلسطينيّة المتحدّية لفكرة الانهزام، عبر صمودها الأسطوري وإصرارها على استعادة الحقوق كاملة. وكان لنشاط اليهود المعاديين للصّهيونيّة تأثير كبير في دعم فاعليّة هذا التّضامن؛ حيث احتلّوا الكونجرس وتمثال الحريّة وأكبر جسر في كاليفورنيا ومبنى بلومبيرغ وأماكن أخرى. ويقول هؤلاء بأّنَّ ما يجري بفلسطين من جرائم حرب وإبادة وفصل عنصري؛ لا يحصل باسم اليهود. كما يوظّف أعضاءُ الحركة امتيازاتهم وأموالهم لدعم الفلسطينيّين تحت شعار “المحرقة لا تتكرّر مرتين”، ويلبسون شعارات مثل: “من البحر الى النهر”، “يهود لوقف إطلاق النّار” ،”يهود ضدَّ الاحتلال” وغيرها.

نتائج التّضامن الدّولي:

  1. الاعتراف المُتلاحق للعديد من الدّول بدولة فلسطين.
  2. استمرار حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات من جميع الجهات الدّاعمة للكيان.
  3. أظهر هذا التّضامن نقاط ضعف الإسرائيليّين متزامناً مع كشف ضعف تأثير تحالفهم العسكري والسّياسي مع أمريكا الّذي عجز، وخاصّة في السّنوات الأخيرة سواء في فلسطين أو لبنان أو في أماكن أخرى، من تحقيق أهدافه الاستراتيجيّة.
  4. لم تعد إسرائيل قادرة -كما كانت في السّابق ولعقد من الزّمن- على إقناع العالم بأنَّ قوّتها قوّة أخلاقيّة وعلى العالم حمايتها ورعايتها، عبر تمويه الحقائق وتشويهها. إذ كشفت فعاليّاتُ التّضامن القناعَ وأظهرت وجهها الحقيقي.
  5. وأصبح الفلسطينيّون مدعومين من جماعات واتّحادات ونقابات تتعاظم قوّتها وتأثيرها يوماً بعد يوم، ممّا يعزّز موقفهم في مطالبتهم لاستعادة حقوقهم.
  6. تأثّرت صورة الكيان وضعُفت أهمّ مرتكزاته وحُرِم من استغلال حجّة المحرقة في كلّ جريمة يرتكبها.
  7. يتمّ الآن الضّغط على الإدارات الأمريكيّة والأوروبيّة لوقف دعم إسرائيل وتمويل حربها ضدَّ الفلسطينيّين.
  8. التّحوّل في الرّأي العام العالمي من مؤيّد للصّهيونيّة إلى مناهض لها وخصوصاً لدى الشّباب، قادة المستقبل.
  9. كشفت ممارسات العنف والاعتقالات وفرض العقوبات بحقّ المتظاهرين المناصرين للقضيّة الفلسطينيّة زيف وهشاشة الدّيموقراطيّة والعدالة وحقوق الإنسان الّتي تدّعيها أمريكا والغرب وبأنَّها مجرّد دعاية غربيّة خالية من أيّ محتوى حقوقي ممّا أفقدهم (أمريكا والغرب) مصداقيّتهم وأظهر التّناقض بين ما يدعون إليه وبين الواقع.

بالنّهاية؛ الفلسطينيّون ليسوا لوحدهم، بل أصبحت شعوب العالم كلّه تقف بجانبهم. ولكي ينجح هذا التّضامن، لا بدّ أن يترافق مع النّضال والمقاومة ويكون هناك انسجام بين عناصره الأساسيّة الثّلاثة من خطاب واستراتيجيّة وفعاليّات، وألّا تثنيه التّحدّيات عن الاستمرار بنشاطاته وصولاً لتحقيق الأهداف.

lo3bat elomam

Recent Posts

غيمةَ العطر..اسكبيها

مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…

4 days ago

Et si le maquillage n’était pas seulement une affaire de femmes !

Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…

5 days ago

هآرتس: لم نحقق شيئًا، ولم نهزم أحدًا، واقتصادُنا منهار وشبابُنا يهاجرون

ترجمة عن صحيفة هآرتس  لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…

5 days ago

ملتقى أبو ظبي: وهم الاستقرار في عالم مضطرب ولكن….

 ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…

6 days ago

Quand changer l’heure devient une affaire d’état !

Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…

2 weeks ago

ماذا سيفعل ترامب في فلسطين واوكرانيا

  Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…

2 weeks ago