فوز اليمين المتطرف في فرنسا الرجل المريض في اوروبا
بروفسور عادل خليفة ( استاذ القانون والعلاقات الدوليّة)
في النتائج الأولية التي نشرتها صحيفة لوموند الفرنسية ليلاً، حصد اليمين المتطرّف الفرنسي 33،5 بالمائة من أصوات الناخبين في دورة الانتخابات البرلمانية التي جرت هذا الأحد، وحلت بعدها في المرتبة الثانية الجبهة الشعبية بنسبة 28،1 بالمائة ، اما فريق الرئيس إيمانويل ماكرون فقد جاء في المرتبة الثالثة بنسبة 20،7 بالمائة، أما نسبة المشاركة في التصويت فقد شارفت على 66 بالمائة. هذا يؤكد القلق الكبير من تقدّم التيار المتطرّف ، الا إذا حصلت تحالفات مناقضة لكل المنطق والمباديء قبل الدورة الثانية يوم الأحد المقبل.
هذه قراءة أوليّة في الواقع الصعب لفرنسا وأوروبا أمام انبعاث شبح اليمين المتطرف
عندما فاز ايمانويل ماكرون بالانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٦، شكل فوزه زلزالاً سياسياً في فرنسا، لأنه تم إقصاء أهم حزبين عتيقين تقليديين في فرنسا، هما الحزب الإشتراكي الذي كان يتزعمه الرئيس الأسبق لفرنسا الكبير (فرانسوا ميتران)، والحزب الجمهوري (الديغولي) الذي كان يرأسه الرئيس الراحل (جاك شيراك). كان هذان الحزبان يتناوبان على حكم فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية طيلة ما يقارب ٦٠ عاماً، فعندما نجح إيمانويل ماكرون في الإنتخابات، تقدّمت إلى المرتبة الثانية اليمينية المتطرفة (مارين لوبان) التي كانت تصعد في الإحصاءات منافسة كل السياسيين في فرنسا.
لم يأتِ الرئيس ماكرون من خلفية سياسية وحزبية تقليدية، كان يعمل في البنوك وتحديداً في بنك روتشيلد في بريطانيا، وعمل بعدها مستشاراً للرئيس ووزيراً للإقتصاد في عهد الرئيس (فرانسوا أولاند)، فهو كان مغموراً سياسياً ولم يكن أحد يتوقع فوزه،مما سمح للتحليلات العديدة في وقتها أن يكون وراءه ثمّة متموّلون كبار أو حركاتٌ صهيونية ويهودية دفعت به للوصول إلى الرئاسة.
كان ماكرون قد وعد في برنامجه السياسي بإقصاء و إضعاف الحركة اليمينية بزعامة (مارين لوبان)، إلّا أنه طيلة ولايته الأولى و في ولايته الثانية حالياً تبين أنه لم يستطع إضعاف الحزب اليميني المتطرف الذي يكره المهاجرين ويريد إلى حدٍ ما العودة إلى الإنغلاق. لا بل أصبحت السيّدة لوبن تنافس كل الرؤساء، وتبين أيضاً أن الإنتخابات التي جرت في أوروبا و في فرنسا خاصة لإنتخاب البرلمانيين الأوروبيين في البرلمان الأوروبي أن حركة اليمين المتطرف في فرنسا حصلت على ٣١٪ من المقاعد مما يعني أنها اصبحت الحركة الأولى في فرنسا على صعيد الانتخابات النيابية.
هذا الصعود لليمين المتطرف في فرنسا دفع بالرئيس الفرنسي الى حل البرلمان وهذا حقٌ له وفق المادة ١٢ من الدستور الفرنسي والدعوة الى انتخابات جديدة بحجة ان ذلك يمنع ربما الحركة اليمينية من السيطرة على البرلمان الفرنسي، ويعمل جاهداً هو وبعض القوى للحصول على أغلبية في مجلس النواب تأهله لإكمال ولايته الثانية في فرنسا.
في عملية التعبئة المستميتة، قال ماكرون إن فرنسا تتعرض لخطر وجودي وخطر داخلي لأن هؤلاء المتطرفين اليمينيين ضد وجود المهاجرين و خاصة لديهم عداء للجاليات الإسلامية، وسبق أن أقاموا مظاهرات ضد المهاجرين تحت ما اسموهم النازيين الجدد وقاموا بإرعاب المجتمع الفرنسي و الجاليات الأجنبية وقد حصل صدامات عديدة
يمكننا القول بأن صعود اليمين المتطرف في فرنسا و ألمانيا و إيطاليا و إسبانيا والنمسا و هنغاريا اي في دول ذات إقتصاد أوروبي قوي بدأ يثير الشك في مستقبل الإتحاد الأوروبي و منطقة اليورو، فهذه الأحزاب حالياً التي ستهيمن على البرلمان الأوروبي لديها رؤية نحو إعادة الدولة القومية أي القطرية وليس التوحد والتكامل في أوروبا، ومن عدائهم للمهاجرين أيضاً العودة الى الانغلاق ، مما دفع العديد من الفرنسيين والأوروبيين إلى التشكيك بفعالية منظمات الإتحاد الأوروبي خاصة إذا ما سيطروا على البرلمان الأوروبي، فمن المتوقع أن تسيطر حركة اليمين المتطرف على ٣٣٪ من المقاعد، هذا ما يدفعهم لتعطيل بعض التشريعات الداعمة للتكامل الأوروبي والوحدة والتماسك بين الأوروبيين، وفي داخل البرلمان سنسمع بخطابات انقسامية ستؤدي الى إضعاف الإتحاد الأوروبي، وطبعاً الأولوية لهم تختلف عن أولويات الاتحاد الأوروبي على الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وموارد الإتحاد وميزانيته، لأنهم ذاهبون بإعطاء الأولوية للقضايا الداخلية وفقاً للشعبوية التي اثاروها داخل الدول حتى وصلوا الى هذا الكم من المقاعد.
فرنسا مثلاً بدأت تواجه مشكلة مع الإتحاد الأوروبي وهي دولة عضو ومؤسس في الاتحاد الاوروبي، لأن استطلاعات الرأي تشير الى ازدياد انعدام الثقة بمؤسسات الاتحاد الاوروبي بين الفرنسيين مع تصاعد اليمين المتطرف في فرنسا، وكما ذكرنا لأن إهتمام الناس مع اليمين المتطرف اصبحت تطال قضايا داخلية لها علاقة بمستوى المعيشة وقضايا الهجرة وقضايا محلية أخرى تأخذ حيز الأولوية من القضايا الأوروبية الكبرى.
هذا الأمر ينطبق أيضاً على إسبانيا وإيطاليا و ألمانيا خاصة لأن (إليس فايدل) زعيمة اليمين المتطرف في ألمانيا قالت منذ أيام قالت إننا سنعود إلى المربع الأول و سننظم في حال فزنا إستفتاء جديدًا للألمان بالنسبة لموقفهم من الإتحاد الأوروبي، هذا يعني ان الخطر موجود فكما خرجت بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، يمكن أن تخرج ألمانيا.ويتفكك او يضعف الاتحاد.
أيضاً في إيطاليا التي تدير فيها تيّار اليمين المتطرف ( جورجيا ميلوني) والتي زارت لبنان قبل اشهر أيضاً تذهب بأتجاه القضايا الداخلية و المعيشية الشعبوية والمهاجرين، هو الخطاب نفسه لليمين المتطرف في كل الدول الأوروبية، وبالتالي سيتوحد اليمين المتطرف في أوروبا للضغط والسير بسياساتهم المتطرفة، كذلك الأمر في فنلندا ، حيث شكّل من يُسمَون بالقوميين و اليمينيين الجدد حكومة إئتلافية بنفس الإتجاه اليميني المتطرف كذلك الأمر في السويد وإسبانيا، إنهم يحققون مكاسب كبيرة غير متوقعة. قد يكون بسبب فشل بعض الساسة وخاصة في فرنسا، حيث أنّ ماكرون يصب جلَّ اهتمامه ضد بوتين مُزايدًا في ذلك على الأميركي، ويريد أن يرسل جيشًا يقاتل بوتين و يريد دفع خمسين مليارًا لأوكرانيا، في وقت تصعب الظروف الداخلية على المواطن الفرنسي.ربما يساعد على ذلك بعض الضغوط الأميركية على الدول الاروبية لابقائها في دائرة الهيمنة الأميركية الهادفة إلى إضعاف الإتحاد الأوروبي وإبقائه تحت سيطرة وهيمنة أميركا في الناتو و السياسة الخارجية.
في التقييم العام في فرنسا بدأت المظاهرات الشعبية ضد اليمين المتطرف في العاصمة باريس وعدة مدن أخرى وبدأت الإنقسامات الحادة بين القوى السياسية، فاليمين المعتدل الذي يمثله حزب الجمهوريين الديغوليين انقسم لأن رئيسه ذهب بالتحالف مع اليمين المتطرف (مارين لوبان) وكأننا أمام المشهد الذي سبق وصول ماكرون للسلطة قبل ٦ سنوات عندما ضرب وأضعف أهم قوتين في فرنسا اللتين حكمتا فرنسا منذ ٦٠ عاماً أي الحزبان الاشتراكي والجمهوري الديغولي.
صحيح أنه بالنتائج النهائية اليمين المتطرف تقدم في كل هذه الدول الا انه لم يصل الى الأغلبية المطلقة، لكن بالمقابل يخرج الإتحاد الأوروبي ضعيفًا في ظروف دقيقة على أوروبا وفي ظل الحرب الروسية الأوكرانية والتنافس الكبير بين القوى الكبرى والإتحاد الأوروبي والتكتلات الإقتصادية الدولية.
من المؤكد أن صورة الإتحاد الأوروبي تراجعت فلم تعد صورة عن الازدهار والنمو والتطور وأصبحت عند الناس صورة ضبابية تدل على تقشف وبطالة وأزمات مالية وأزمات مهاجرين، انها فرصة لليمين المتطرف بالخطابات الشعبوية التي تجذب الناخب وتؤثر في مزاجه فوصل الى هذه النتائج من الإنتخابات وغلب على المشهد السياسي في فرنسا والدول المذكورة طغيان اليمين المتطرف الذي هز صورة ماكرون الذي لا يعلم مصيره بعد الإنتخابات فهل سيشكل حكومة تعايش مع اليمين؟ أم أنه سوف يستقيل؟
في ظل هذه المعطيات سنكون امام تعايش جديد بين رئيس جمهورية في فرنسا وبين رئيس وزراء من معسكرين مختلفين ومتعارضين الرئيس ماكرون ومارين لوبين من اليمين المتطرف. هذه الحالة عاشتها فرنسا ثلاث مرات منذ عام 1958. فقد حصل تعايش بين رئيس جمهورية ورئيس حكومة من معسكرين متعارضين، جاك شيراك الديغولي عام ١٩٨٦ – ١٩٨٨ مع فرانسوا ميتران الاشتراكي ثم ادوار بالادور ١٩٩٣-١٩٩٥ ايضاً مع فرانسوا ميتران وثم ليونيل جوسبان الاشتراكي من ١٩٩٧ – ٢٠٠٢ مع جاك شيراك. ولو ان الرئيسين من معسكرين مختلفين قد تمكنا من اتخاذ قرارات مهمة معاً الا انه حصل نوع من الشلل في السياسة الخارجية الفرنسية والداخلية ايضاً. لذلك نطرح السؤال هل اصبحت فرنسا رجل اوروبا المريض، هذا المصطلح الذي تم اطلاقه على السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر من قبل قيصر روسيا نيكولاي الاول بسبب ضعف الإمبراطورية وفقدان هيبتها وتكبدها العديد من الهزائم. بعدها قامت القوى الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا تخطط لوراثة هذه الإمبراطورية واقتسام اراضيها وممتلكاتها. فهل سيعيد التاريخ نفسه ولكن هذه المرة مع فرنسا. في هذا المعنى يقول وزير خارجية بولندا بعد ظهور السترات الصفراء في المظاهرات بان فرنسا اصبحت الرجل المريض في اوروبا و هي تشد اوروبا نحو الاسفل.
تعيش فرنسا في الفترة الأخيرة وقد تراجعت مكانتها في كل المجالات على الصعيدين الأوروبي والعالمي وذلك بسبب السياسة الخارجية غير الموفقة ،لذلك فهي تراكم الإخفاقات الناتجة عن سوء تسيير وتوجيه العلاقات السياسية والاقتصادية .
هذا الكلام سببه فقدان فرنسا لنفوذها في العالم .حيث طردت من مالي والنيجر وبوركينافاسو التي كانت تستعمرها في افريقيا وتعتمد عليها في الكثير من المواد الاولية وخاصةً اليورانيوم والذهب، كذلك فقدت فرنسا نفوذها في الشرق الاوسط في سوريا والعراق ولبنان وهي تعيش ظروف صعبة للغاية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتفككٍا اجتماعيّا ، قد يؤدي الى حرب اهلية.
كل هذه المعطيات استغلها اليمين المتطرف ليتبنى الخطاب الشعبوي ضد المهاجرين والذين صورهم على انهم السبب في مشاكل فرنسا الداخلية من ارهاب واجرام وسرقات وفوضى، مما ادى الى صعوده في الانتخابات الاوروبية والفرنسية خاصة.
كان لفرنسا سياسة عربية لم تعد موجودة فلقد اصبحت ملحقة بالسياسة الأميركية، فهي لا تقرر شيئًا دون الرضا الأميركي. فلبنان مثلاً الذي يعتبر من الدول الصديقة لفرنسا وكان ملعبها الدائم، لا تستطيع وحدها اليوم تنظيم مجرد مؤتمر لأجله بغية دعم الجيش اللبناني بدون موافقة الولايات المتحدة الأمريكية.
اذاً فرنسا تعيش حالة من الارباك على الصعيدين الداخلي والخارجي: غلاء فاحش و مستوى اقتصادي متدنٍ بالاضافة للحرب الاوكرانية الروسية التي تركت تداعياتها على فرنسا وأوروبا وبعد ان كان ماكرون يفاوض بوتين اصبح الدّ أعدائه بسبب عزمه على ارسال قوات فرنسية للقتال الى جانب القوات الأوكرانية ومنع موسكو من الانتصار .
كل هذه العوامل تدفعنا للقول بان فرنسا ماكرون هي الرجل الاوروبي المريض الذي اتعب القارة العجوز بسياساته الضعيفة.
هذه المعطيات دفعت بعالم الاجتماع و المؤرخ الفرنسي نيكولا بافيريز إلىى القول إنًّ فرنسا اصبحت رجل اوروبا المريض وانها تذهب من افلاس الى افلاس ومن هزيمة الى هزيمة، وكان يشدد هنا في احدى افتتاحيات جريدة الفيغارو على انَّ موجات العنف التي تجتاح فرنسا في كل مرة يحصل مشكل مع القوى الامنية او مع المهاجرين، يذهب المنتفضون الى تكسير الاف السيارات والى تدمير وحرق العديد من المناطق، لذلك ضعُفت سلطة الدولة، وهرِم المجتمع الفرنسي وتعب، وبات يتساءل: هل يعقل ان الكوادر الفرنسية العليا من مهندسين واطباء و حملة الشهادات العليا لا يستطيعون ان يعيشوا في مدينة مثل باريس لان الرواتب لا تتعدى ٢٠٠٠ يورو و ايجار استديو بمساحة٢٠ مترًا١٢٠٠ او ١٣٠٠ يورو، هذا سبب اساسي للمشاكل الداخلية في فرنسا والتي ستؤدي الى زعزعة مؤسسات وقيم الجمهورية التي تغنّت بها فرنسا منذ الثورة الفرنسية.