روزيت الفار-عمّان
أشهر المؤرّخ وأستاذ الجامعة اليهودي المناصر للقضيّةّ الفلسطينيّة، إيلان بابيه، في لندن مؤخرّاً، كتابه الّذي يفصّل فيه وبكل دقّة وحياديّة، كيف ومتى تمّ إيجاد “جماعات الضّغط” لأجل دعم الأيدولوجيّة الصّهيونيّة والّتي قال بابيه بأنَّها أُنشأت منذ زمن طويل وقبل قيام “دولة إسرائيل”، وكيف أنّها كفكر وممارسة، لا تزال تعيش وتنتعش في بريطانيا وأمريكا ومعظم دول أوروبّا حتّى يومنا هذا. كذلك أوضح إمكانيّة وكيفيّة تفكيك هذه الإيدولوجيا وإنهائها.
قال بابيه إنّ أساس هذه الأيدولوجيا مبني على فكرتي “التّهجير والاستبدال Displacement and Replacement” . جاء ذلك في بجلسة حضرها مجموعة من رفاقه الّذين تجمعه بهم أرضيّة مشتركة من الفكر والعمل، مع استحضار ذكرى المفكّر الرّاحل إدوارد سعيد، والّذين كانوا خلف تبنّيه للقضيّة الفلسطينيّة والدّفاع عنها، ودعمه في تكوين صداقات وتحالفات؛ كسب بواسطتها ثقة المجتمع الّذي أصبح مُمتنّاً له ومحافظاً عليه. قال بابيه إنّه” دون هذا الدّعم؛ قد لا أكون حقّقت ما حقّقت من إنجازات في ظلِّ الضّغوطات الّتي تواجهنا جميعاً عند التّحدّث بحريّة ومصداقيّة لأجل فلسطين”.
تحدّث بابيه؛ عن الأسباب الّتي دعته لكتابة هذا المؤلَّف الطّويل الّذي يحمل عنوان “جماعات الضّغط لأجل الصّهيونيّة على ضفّتي الأطلسي“، وعن الدّوافع خلف الدّعم العسكري والمادّي لإسرائيل والاعتراف لها بالأراضي الّتي احتلّتها ومحو حقوق الفلسطينيّن.
ذهب الكاتب إلى أبعد من ذكر وظيفة هذه الّلوبيات في الولايات المتّحدة الأمريكيّة؛ بل بحث مهامها وتأثيرها في أوروبّا وبريطانيا بالذّات، وأوضح كيف تطوّر هذا “الحكم الّلاهوتي” الغامض وغير المؤثّر عبر السّنين ليصبح قوّة سياسيّة رئيسيّة ويخترق جانبي الأطلسي. كما وتناول حديثه القِوى الّتي أدّت لهذا التّطوّر، بأسلوب تجنّبه الكثيرون عند التّطرّق أو التّحدّث عنه. ممّا جعل العمل فريداً لكاتب لا يهاب التّهديدات أو يقبل الرّشاوي، وهذه إحدى الجوانب الّتي ذكرها الكتاب.
كيف لدولة تُعلن عن نفسها بأنّها مُتطوّرة تكنولوجيّاً ولديها أقوى جيش في الشّرق الأوسط ومدعومة كاملاً من أمريكا والغرب، لا تزال تحاول الدّفاع عن شرعيّتها منذ سنوات طويلة؟
لماذا الحاجة لإثبات هذه الشّرعيّة من قبل الدّولة ذاتها ومن يمثّلها من باقي دول العالم؟
ثمَّ لماذا “فلسطين”؟ وهي الحالة بسيطة الفهم والقضيّة الأخلاقيّة بالأساس، لا تزال غير قادرة على أن تصبح قضيّة شرعيّة لدى صنّاع القرار والسّياسيّين؟
كانت هذه التّساؤلات، السّبب الرّئيس خلف قيامه بتقديم هذا الكتاب والّذي تطلّب منه العودة لتاريخ إنشاء هذه الّلوبيّات بغية تفسير ما يحدث اليوم، وشرحه خطوة خطوة منذ البداية ليفهم القارئ أسباب قوّة وتأثير وبقاء هذا المشروع إلى الآن. وكذلك لإظهار أوجه الخلل ونقاط الضّعف داخل هذه اللّوبيّات كي يصبح لدينا رؤية متفائلة للمستقبل.
وحرصاً منه على الحفاظ على عنصر الحياديّة، طرح بابيه في كتابه؛ وجهات نظر طرفي الجدال عبر اقتباسات مهمّة ومطوّلة لقادة ومسؤولين سياسيّين، وتحديداً، أمريكيين وإنجليز، من الّذين دعموا الصّهيونيّة وكذلك لمن عارضوها. اعتبرها بمثابة تنبّؤات حقيقيّة لنوع المشاكل والتّعقيدات الّتي يمكن أن تخلقها المجتمعات اليهوديّة أينما وُجِدت.
أضاف بأنّنا لا زلنا نعيش هذا الفصل من التّاريخ؛ والّذي أسماه ب مشكلة اليهود في الغرب الّتي لا يمكن أن تُحلّ إلّا من خلال استعمار فلسطين وعلى حساب الفلسطينييّن، وكيف علينا كغرب، مواصلة الدّفاع عن هذه الفكرة “المروّعة” وتحصين ممارساتها وسياساتها ضد الفلسطينييّن أينما كانوا”.
ويقول: إنَّ حقيقة ظهور الصّهيونيّة كمشروع، مرتبط بمشروع المسيحيّة الصّهيونيّة حتّى قبل أن يصبح مشروعاً يهوديّاً، وهي بمبدئها تقوم على رؤية إلهيّة مقدّسة Divine تشترط وجود دولة لليهود بفلسطين، كمطلب سابق لعودة المسيح الثّانية وحكمه على الأرض لألف عام وانبعاث الموتى.
هذه بالأساس فكرة بدأت في بريطانيا وتحوّلت لأمريكا بواسطة أشخاص لاهوتييّن سرعان ما أصبح بعضهم أصحاب مراكز ونفوذ من قادة وسياسيّين ورجال أعمال، قدّموا بعدها مبرّراتٍ وحججاً توراتيّة محدّدة لفكر إمبريالي جديد لا يخصُّ فقط المسألة الفلسطينيّة بل جميع دول شرق المتوسّط، “المشرق”.
كان شرق المتوسّط خلال القرن 19 محلَّ اهتمام للإنجليز. فعلى الرّغم من انحدار الحكم العثماني الّذي كان قائماً آنذاك في تلك المنطقة، ارتأت بريطانيا أن تحافظ عليه سليماً؛ تحسّباً لأيّ صراع قد ينشأ بين القوى الأوروبيّة حول اقتسام الغنائم في حال تفكيكه، والّذي قالت بأنَّ ذلك قد يؤدّي مستقبلاً لحرب عالميّة، وهو بالفعل ما حدث.
اعتقد أولئك الّلاهوتيّين أو الإنجيليّون المسيحيّون وإلى جانبهم الإمبرياليّون الإنجليز؛ بأنَّ الوقت قد حان للاستفادة من الإمبراطوريّة العثمانيّة المُنحدرة، لإنشاء مشروع غير يهودي يدعم فكرة “استقدام اليهود لفلسطين وإحلالهم بدل الفلسطينيّين كمملكة أو جمهوريّة أو دولة. وهذا يشير إلى أنّه على مدى القرن ال19؛ كان العالم منشغلاً في مصير فلسطين، دون وعي الفلسطينيّين بأنَّهم سيصبحون مشروعاً استعماريّاً في المنطقة وحتّى في العالم.
لاقى هذا التّفكير تأييداً واسعاً لدى داعمي الصّهيونيّة الأوائل. كان بابيه، وكغيره، يعتقد في البداية بأنّ المشروع سرّي غير مرتبط بمشروع الصّهاينة الأصلي، إلّا بعد أن قرأ مُذكّرة كتبها “اليعازر بن يهوذا”، الّلغوي الصّهيوني الّذي أحيا الّلغة العبريّة وروّج لاستخدامها، أظهر فيها بن يهوذا تأثّره الواضح جدّاً بالمسيحيّة الصّهيونيّة وقام بتغيير رأيه عن الصّهيونيّة عبر دعوته لإعادة تعريف مفهوم “اليهوديّة” ليس من منطلق ديني بل كمفهوم قومي بفلسطين وليس بمكان آخر. فكان تأثير هذا النّوع من التّفكير الإمبريالي الّلاهوتي لإيجاد دولة يهوديّة في فلسطين، يشكّل لدى بعض المفكّرين؛ الحلَّ الأفضل ل”معاداة السّاميّة” في وسط وشرق أوروبّا.
أراد هنا بابيه أن يثبت بأنّ فكرة الصّهيونيّة لم تكن فكرة أو فصلاً من تاريخ قد مضى وانتهى، بل لا يزال تحالفاً حاضراً، لا يعمل فقط في أمريكا كمركز لها، كما يعتقد معظمنا، بل في السّويد والنّرويج والدّنمارك، ويعيش كذلك داخل بريطانيا وأوروبّا. حتّى في ماليزيا الّتي زارها، وجد الكاتب بأَّنَّ قادتها المسيحيّين أيضاً متأثّرون بهذا الفكر ولحدٍّ كبير.
يعمل هذا الفكر على خدمة إسرائيل بإسم الفكر ذاته الّذي أُنشأ عليه المشروع الصّهيوني في بدايته وذلك من خلال قدرة جماعات الضغط (الّلوبيات) الصّهيونيّة من التّأثير على صنّاع السّياسة والقرار في أمريكا وبريطانيا وإقناعهم في التّغاضي عن انتهاكات إسرائيل الفاضحة للقوانين والأعراف الدّوليّة ومنحها دعماً ماليّاً وعسكريّاً غير مشروط وإنكار الحقوق الفلسطينيّة.
نقطة ثانية هامّة تطرّق لها الكاتب، وهي نظرة الشّخصيّات اليهوديّة المهمّة وأصحاب المراكز العليا في المجتمع الإنجليزي The Anglo-Jewish Community والّذين يصرّون على عدم الذّهاب إلى فلسطين، مُبديين كامل ارتياحهم في البقاء في بريطانيا الّتي وجدوا فيها مكاناً آمناً لهم. داعين في الوقت ذاته، وبكلّ وقاحة، لإقامة دولة يهوديّة بفلسطين تجمع فيها يهود وسط وشرق أوروبّا المعرّضين لمعاداة السّاميّة، وذلك تجنّباً للتأثير السّلبي الّذي سيحدثه هذا النّوع من النّاس على وضعهم وهيبتهم وسمعتهم كفئة مُميّزة، لكون اليهود القادمين -حسب رأيهم- هم من الفقراء ومن بيئات وخلفيّات سيّئة وفاسدة ويحتاجون لمَن يتكفّل بهم ويرعى شؤونهم. وبات الأمر واضحاً لدى كافّة يهود أوروبّا وأمريكا المهمّين وأصبحوا واعين تماماً للأعباء والمشاكل الّتي عليهم تحمّلها إن جاء هؤلاء اليهود -لا سمح الله- للدّول الّتي يعيشون فيها. وهذا يفسّر الدّعم الّلامتناهي الّذي تتلقّاه إسرائيل من أمريكا وألمانيا ومن بقيّة دول الغرب.
يقول بابيه بأنّ الوضع الآن قد بدأ يتغيّر، إذ قامت هناك حراكات شبابيّة في أوروبّا وأمريكا، بينهم يهود، تدرك وتدين ممارسات بلادهم وسياساتها الدّاعمة للصّهيونيّة وإسرائيل؛ وتقف بجانب القضيّة الفلسطينيّة وتعترف بأنَّ هذا المشروع لا يشكّل معضلة للفلسطينيّين فقط؛ بل لجميع الأمريكيّين والأوروبيّين ولايمكن أن يخدم مصالحهم.
والنّقطة الثّالثة المهمّة الّتي أشار إليها الكاتب، هي موضوع الدّيموقراطيّة الاجتماعيّة والحركة العماليّة في بريطانيا والّتي تمَّ تأسيسها على قِيَمٍ اجتماعيّة عالميّة تعترف بحقوق الإنسان وتدعم مفهوم المساواة والحقوق المدنيّة وحقوق العمّال. غير أنّها في العام 1950 وبالتّوازي مع بداية إنشاء “دولة إسرائيل” قامت جماعات من الحزب العمّالي حملت اسم “أصدقاء إسرائيل” الّذي، بمضمونه، أسّس أعمدة للحزب الاجتماعي البريطاني الرّافض لسياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، لكنّه هو ذاته -ودون الشّعور بأيّ تعارض- يدعم إسرائيل بالكامل لدرجة أنَّ قادته يهاجمون ويدمّرون أيّ تحّرك يساند الفلسطينيّين ويتعاطف معهم أو يدعو لتمثيلهم. كحالة “جيرمي كوربن”، العضو السّابق في الحزب الّذي هوجم وعوقب بسبب معارضته لسياسة بلاده الدّاعمة لإسرائيل في جرائمها وقمعها وتطهيرها العرقي والآن في حرب الإبادة الّتي تشنّها ضد الفلسطينيّين.
فالظّاهرة ليست جديدة بل لها جذور مهمّة ليس فقط في بريطانيا بل في كل أوروبّا وتعمل كدرع يحمي الصّهيونيّة بإسم مبادئ الدّيموقراطيّة الاجتماعيّة الّتي تُعتبر أسوأ بكثير من دعم جناح اليمين الفاشي الّذي تتمتّع به إسرائيل الآن وربّما منذ زمن، إذ أن هذا الجناح، كما يقول بابيه، واضح من حيث الأيديولوجيا والحلفاء والجهة الّتي يدعمها، مما يسمح بسهولة تحدّيه والتّعامل معه، على خلاف مَن يدّعون الدّيموقراطيّة الاجتماعيّة وهم في واقعهم يدعمون الصّهيونيّة العنصريّة. ناهيك عن مجلس اتّحاد التّجارة العمّالي الممثّل لجميع نقابات العمّال والّذي يعتبر من أكبر التّنظيمات عدداً وتأثيراً ويمثّل أكبر قوّة لجماعات الضّغط الدّاعمة لإسرائيل ويرفض أيّ طلب لعضويّتة تقدّمه أي جهة يشتبه بدعمها للفلسطينيّين؛ بحجّة أنّ ذلك نشاط سياسي غير مقبول لديهم.
ينهي بابيه حديثه متفائلاً بنهاية إسرائيل وإعادة خلق فلسطين حرّة من النّهر إلى البحر ويقول أنّه يعجب بقدرة الفلسطيني على الصّمود حتّى الآن أمام أكبر تحالف وقوّة عسكريّة وسياسيّة واستراتيجيّة ويدعّم تفاؤله بقوله بأنّ شعوب العالم أصبحت تعي الآن ما يجري حولها وتخرج وتطالب بحقوقها. ووصف سياسيّي العصر بأنّهم الأسوأ والأكثر تدميراً لشعوبهم وجهلاً وبأنّهم يسعون دائماً لتكوين تحالفات مؤيّدة وداعمة تحافظ على بقائهم في وظائفهم بعيدين عن تحقيق آمال شعوبهم وطموحاتها.
كان بابيه قد ذكر بمكان آخر، الأسباب الّتي دعته للتّفاؤل بمستقبل فلسطين والّتي يتعلّق معظمها بالدّاخل الإسرائيلي من انقسام في المجتمع بين معسكرين مختلفين أحدهما يدعو “لدولة يهودا” الدّينيّة والآخر “لدولة إسرائيل” العلمانيّة مع عدم وجود أرضيّة مشتركة بينهما. إضافة لزعزعة ثقة المجتمع بالمؤسّسة العسكريّة والجيش بعد أن فشل في حماية المواطنين بحرب 7 أكتوبر، ناهيك عن تصدّع الاقتصاد وما خلقه من أزمات. والجديد والمُهم، هو تحوّل الرّأي العام العالمي وخصوصاً الشّبابي، بما فيهم اليهود، عن النّظرة القديمة المؤيّدة لإسرائيل؛ لأخرى مختلفة داعمة للقضيّة وللحقّ الفلسطيني. ثم عزلة إسرائيل دوليّاً واعتراف العالم بارتكابها جرائم حرب وحرب إبادة وغيرها من العوامل الّتي أصبحت تهدّد بقاء الصّهيونيّة وإسرائيل كمشروع ودولة.
مرح إبراهيم يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ…
Et si le maquillage n'était pas seulement une affaire de femmes ! Nadine Sayegh-Paris Même si…
ترجمة عن صحيفة هآرتس لو جاء كائن من الفضاء وشاهد من فوق ما يجري، ماذا…
ناقش ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الحادي عشر، الذي نظَّمه مركز الإمارات للسياسات، على مدار يومي…
Quand le changement de l’heure devient une affaire d’état ! Nadine Sayegh-Paris ‘Heure d’été’, ‘heure…
Guillaume Ancel ( كاتب فرنسي) ترجمة : مرح إبراهيم فاز دونالد ترامب فوزًا واضحًا،…