هل أشعلت دماءُ الطِّفلة “هند” شرارةَ الثَّورة الطُّلّابيّة في الغرب؟
هل أشعلت دماءُ الطِّفلة “هند” شرارةَ الثَّورة الطُّلّابيّة في الغرب؟
د. محمد الحوراني *
لم تنجحِ الملياراتُ من أموال العرب والـمُسلمينَ المهدورةِ على ضفاف الذُّلِّ والعار في تغيير قناعات الغرب والتأثيرِ في مُؤسَّساتِهِ ومراكزِ أبحاثِهِ لتقديمِ الصُّورةِ الحقيقيّةِ الكاشفةِ للرِّوايةِ الفلسطينيّة، اعتماداً وتأسيساً على الحقِّ المسلوب والدَّمِ المسفوح للشَّعبِ العربيِّ الفلسطينيّ الذي تخلّتْ عنهُ، وتآمرَتْ عليهِ، غالبيّةُ الأنظمةِ العربيّةِ والعالميّة، وتركتْ نساءَ فلسطينَ وأطفالَها تحتَ رحمةِ الدَّبّاباتِ والصَّواريخ الصّهيونيّة، لكنَّ دِماءَ نساءِ غزّةَ وأطفالِها نجحتْ في هـزِّ أركانِ الشّارعِ الغربيّ، ولا سيّما لدى المُثقّفينَ والفنّانين، وأخيراً الطَّلَبَة، إذْ نجحَ الحَراكُ الطُّلّابيُّ في الجامعاتِ الغربيّة في التأثيرِ في عُمومِ المُجتمَعِ الغربيّ، وأزالَ اللِّثامَ عن الصُّورةِ الحقيقيّةِ للدّيمُقراطيّاتِ الأميركيّةِ والغربيّةِ المزعومة، وللحُرِّيّةِ المُزيَّفةِ التي تدّعي الولاياتُ الـمُتّحدةُ الأميركيّةُ الدِّفاعَ عنها وخَوْضَ الحُروبِ من أجلِها، لكنَّ أشلاءَ أطفالِ فلسطينَ تمكّنتْ من تعريَةِ الحضارةِ الغربيّة وتفنيدِ مزاعمِها، ولا سيّما الـمُتعلّقة بحقوقِ الإنسانِ عموماً، والطِّفلِ خُصوصاً، فقد أطلقَ الطَّلَبَةُ في جامعة “كولومبيا” الأميركيّة اسمَ “هند” على قاعة “هاملتون” في الجامعة، وهو ما يُؤكِّدُ الحضورَ القويَّ والمُوجِعَ لصورةِ الطِّفلةِ الفلسطينيّة “هند رجب” التي ملأتْ صَرَخاتُها أرجاءَ العالَم، مُطالِبَةً أصحابَ الضَّميرِ العالميِّ الحيِّ بإنقاذِ حياتِها من بحرِ الدَّمِ والأشلاء في السّيّارة التي احتَضنَتْ جسدَها الغضَّ إلى جانبِ عددٍ من جُثَثِ الشُّهداءِ من أبناءِ عائلتِها وغيرِهم، وما كادَتْ صرخاتُها تَصِلُ إلى أسماعِ بعضِ المُسْعِفين، حتّى توجّهُوا إلى إنقاذِ براءةِ صَرَخاتِها ووجَعِ أنينِها الذي أدْمى قلوبَهم وقُلوبَ كُلِّ مَنْ وصلَ إلى أسماعِهم، قبلَ أن يُوجِّهَ الـمُحتلُّ إلى صُدورِهِمُ الـملائكيّةِ نيرانَ حِقْدِهِ الهَمَجيِّ، لتحتضنَ أجسادُهم طُهرَ جَسَدِها وقَداسَتَهُ قبلَ أن تُكمِلَ ربيعَها السّادس. لكنَّ صَرَخاتِ الطِّفلةِ الشَّهيدة نجحتْ في تمزيقِ زيفِ ما بقيَ من الرِّوايةِ الصّهيونيّة، فتَدافَعَ الآلافُ من طُلّاب الجامعات في دُوَلٍ غربيّةٍ عدّة، مُطالِبينَ حكوماتِهم بوَضْعِ حدٍّ للحربِ الهَمَجيّة التي يَشنُّها الكيانُ الصّهيونيُّ بدعمٍ من أنظِمَتِهم على البراءةِ والإنسانيّةِ والحياة في فلسطين، وكانت جامعةُ “كولومبيا” وطَلَبَتُها أساسَ الحَراكِ الطُّلّابيِّ المُؤيِّدِ للشَّعب الفلسطينيّ والمُطالبِ بوَقْفِ المجازرِ الصّهيونيّةِ بحقِّه، وهي الجامعةُ المعروفةُ تاريخيّاً بحُضورِها الطُّلّابيِّ الفاعلِ والمُؤثِّر الذي يعودُ إلى عام ١٩٦٨، كما أنّها الجامعةُ التي احتَضنَتْ عدداً من أبناءِ الشَّعبِ الفلسطينيّ ومُثقّفِيهِ الفاعِلينَ، وعلى رأسِهِمُ المُفكِّرُ الفلسطينيّ “إدوارد سعيد”، وتميّزتْ بانْحِيازِها المُطلَقِ إلى الكرامةِ الإنسانيّة وحقِّ الشُّعوب في تقريرِ مصيرِها والتَّمسُّكِ بحُرّيتِها، وقد تَميَّزَ طلبتُها بالثَّوريّةِ العاليةِ والتَّماهي المُطلَقِ معَ القضايا الإنسانيّةِ العادلة، وعلى رأسِها القضيّةُ الفلسطينيّة، ولهذا كانَ الحَراكُ الطُّلّابيُّ في هذه الجامعة وغيرِها فاعلاً ومُؤثِّراً، ولم يَتوقَّعْهُ صُنّاعُ القرار في الولاياتِ المُتّحدةِ الأميركيّة وأجهزةِ الاستخباراتِ فيها، بل إنّ أجهزةَ الاستخبارات الغربيّة لم تتوقّعْ إطلاقاً تَوسُّعَ رُقْعَةِ الاحتجاجاتِ وتَصاعُدَها لتُسَيطِرَ على أكثرِ الجامعاتِ عَراقَةً في فرنسا (السُّوربون)، ومعهد العلومِ السِّياسيّة، وسويسرا (لوزان)، والبُرتُغال، وكندا (تورنتو)، وإسبانيا، والمكسيك، وأستراليا، وغيرها من الجامعاتِ الأميركيّةِ والأوروبّيّة العريقة. وإذا كانَ الحَراكُ الطُّلّابيُّ قد كشفَ الوجهَ الحقيقيَّ للدّيمقراطيّاتِ الغربيّة بما أقدمَتْ عليهِ الشُّرطةُ وقُوى الأمن في دُوَلٍ عدّة مِنِ اعتِداءٍ على الطَّلَبَةِ المُحتَجِّينَ ومُحاولاتِ تفريقِهم بالقُوّةِ واقتيادِهم بطريقةٍ مُهينةٍ إلى المُعتقَلاتِ وتمزيقِ الخِيامِ التي أُعِدّتْ للاعتصاماتِ السّلميّةِ للطَّلَبةِ في جامعاتِهم، فإنَّ هذا الحَراكَ الثَّوريَّ أكَّدَ عُمقَ الوَعْي الذي يَتمتّعُ بهِ الطَّلَبَةُ الغربيُّون، كما أنّهُ أكّدَ نجاحَ الشَّعبِ الفلسطينيِّ بأدواتِهِ البسيطة في إيصالِ صوتِهِ ومظلوميّتِهِ إلى العالم. لقد أثبتَتْ ثورةُ الجامعاتِ الغربيّةِ المُتَضامِنَة معَ الشّعبِ الفلسطينيِّ والداعية إلى وَقْفِ حمّامِ الدَّمِ والعُدْوانِ على نساءِ غزّةَ وأطفالِها، أنّنا أمامَ لحظةٍ فارقةٍ من لحظاتِ تكوينِ الوعي الغربيّ، وصناعةِ روايةٍ حقيقيّةٍ تُؤرِّخُ لمسيرةِ الدَّمِ والبُطولةِ الفلسطينيّة على الرَّغمِ من التَّخاذُلِ والتَّواطُؤِ الرَّسْميِّ العربيِّ والعالميّ، وهي لحظةٌ يُدرِكُ السَّاسةُ الغربيُّونَ خُطورتَها على بناءِ العقلِ الغربيّ وتكوينِه، ولهذا سارَعَ “مايك جونسون” رئيسُ مجلسِ النُّوّابِ الأميركيّ إلى زيارةِ جامعة “كولومبيا” تحتَ حِراسةٍ أمنيّةٍ مُشدَّدة، تُوحي بأنَّها زيارةٌ لمَعْقِلٍ من معاقلِ الإرهابِ والدَّاعشيّة التي صنعَتْها الولاياتُ المُتّحدةُ الأميركيّة في العالم، مُتَّهِماً الطَّلَبَةَ المُتَضامِنينَ معَ الشَّعبِ الفلسطينيّ بمُعاداةِ السَّاميّة، قائلاً: “لا يُمكِنُنا السَّماحُ لهذا النَّوعِ من الكراهيةِ ومُعاداةِ السّامية بالازدهارِ في جامعاتِنا”، داعياً الرّئيسةَ “مينوش شفيق” إلى الاستقالةِ “إذا لم تستطعْ إعادةَ النّظامِ وإنهاءَ هذه الفوضى”، مُتجاهِلاً أنّ “مينوش” هي التي دَعَتْ شرطةَ “نيويورك” إلى قَمْعِ المُتظاهِرين، مُتّهِمَةً إيّاهم بمُعاداةِ السّاميّة، وهذا ما أخْرَجَها من دائرةِ الأكاديميِّ الحقيقيّ والمُثقَّفِ العُضويِّ المُشْتَبِكِ والمُدافعِ عن طَلَبَتِهِ وآرائِهم وقضاياهُمُ العادِلَة، وهو ما دفعَ الطَّلَبَةَ إلى الـمُطالبةِ بعَزْلِها ومُحاكَمَتِها بسببِ سُلوكها غيرِ الأخلاقيِّ هذا. لقد نجحَ الدَّمُ الفلسطينيُّ في تمزيقِ الرِّوايةِ الصّهيونيّة، وتكوينِ وعيٍ وفكرٍ وقناعاتٍ لدى “قادةِ الـمُستقبل” في الغرب، وهي قناعاتٌ مختلفةٌ تماماً عن السّرْدِيّاتِ والقناعات التي اشتغلَ عليها الآباءُ والأجدادُ في الغربِ مُدّةً طويلة، مُحاوِلينَ صناعةَ تاريخٍ ووعيٍ قائِـمَينِ على الزّيفِ واللُّغةِ المغشوشةِ والمشحونةِ بالأكاذيبِ والتلفيقات، التي قدّمَها الإعلامُ الغربيُّ والصّهيونيُّ والإعلامُ العربيُّ المُتحالِفُ مَعَهُما، على أنّها حقائقُ لا تقبلُ الشَّكَّ، لكنَّ دماءَ الآلافِ من أطفالِ فلسطينَ، وليسَ آخرَها دِماءُ الطِّفلةِ الشّهيدة “هند رجب” بصَرخاتِها المُوجِعَة، وهي تَشُقُّ عنانَ السّماء، صُعوداً من بينِ الأشلاءِ والدِّماءِ الطَّاهرة في غزّة، نَجَحَتْ في إلْهابِ الجامعاتِ الغربيّة وتَثْوِيرِها، تأييداً لعدالةِ القضيّةِ الفلسطينيّة، ومُطالَبَةً برفعِ العُدوانِ والمظلوميّةِ عن شعبِها، ونَسْفاً لما بقيَ من السَّرْديّةِ الصّهيونيّةِ والغربيّةِ الزّائِفَة. إنَّ ما تَشْهَدُهُ الجامعاتُ الأميركيّةُ خُصوصاً، والغربيّةُ عُموماً، مِنْ ثورةٍ داعمةٍ للشَّعبِ الفلسطينيّ ومُطالبةٍ بوَقْفِ المَجازرِ المُرتكَبَةِ بحَقِّه، يُؤكِّدُ أنَّ ثمّةَ تَحوُّلاً حقيقيّاً في الثَّقافةِ والمُجتمَعِ والعقليّةِ الغربيّة، التي بقيتْ مُدّةً طويلةً مُنحازةً إلى الكيانِ الصّهيونيّ وداعمةً لهُ، ولكنْ هل سنُحْسِنُ التَّعامُلَ معَ هذا التَّحوُّلِ الإيجابيِّ غيرِ الـمَسْبُوقِ مُستقبلاً، ولا سيّما بعدَ أنْ نجحَ هذا الحَراكُ الطُّلّابيُّ في توحيدِ موقفِ الطُّلّابِ الجامعيّ من الطُّلّابِ العَرَبِ والمُسلمينَ واليهودِ والسُّودِ الأميركيّينَ والبِيضِ، ليَقِفَ الجميعُ ضدَّ الحربِ الهَمَجيّةِ على الشَّعبِ الفلسطينيّ، جنباً إلى جنبٍ، وكَتِفاً إلى كَتِفٍ، معَ الطَّلبَةِ الفلسطينيّينَ في عُمومِ الجامعاتِ والمعاهدِ الغربيّةِ الثائرةِ نُصْرَةً لفلسطين؟
الكاتب: محمد الحوراني كاتب واستاذ جامعي ورئيس اتحاد الكتّاب العرب في دمشق